قبل سنوات قليلة كان يُنظر إلى اللعب ليس بوصفه شيئًا ثانويًّا فحسب، بل كأنه العدو الأول للدراسة والتعليم، وتكاد تتطابق صورة الطالب المثالي مع الولد الذي لا يترك كتبه ولا يهدر وقته ولو دقيقة واحدة في اللعب.
اليوم وبعد عقود على زمن العقوبة مقابل اللعب، تغيرت المفاهيم بشكل جذري؛ أصبح اللعب جزءًا لا يتجزأ من التعليم الحديث. يدعو الخبراء ليس لإعادة الاعتبار للعب فحسب، بل إلى دمجه في التعليم، وهدم الجدران بينهما؛ بسبب قدرته على تحفيز الطلاب على المعرفة والإبداع واستكشاف عوالم جديدة، وتحويل التعليم إلى تجربة ممتعة وأقرب إلى نشاط ترفيهي.
مع تغير النظرة إلى اللعب في التعليم، هناك من التقط الفكرة ودفع بها إلى مستوى أعمق وأوسع لتشمل مجالات متنوعة، بمعنى أنهم نقلوا اللعب إلى سياقات غير ترفيهية، حيث نشأ مفهوم جديد تحت اسم (Gamification) أو التلعيب كما هو شائع، مع ميلي إن كنت لا بُد معرّبًا المصطلح إلى كلمة "لعبنة"، الذي يعني ببساطة استخدام عناصر وميكانيكيات الألعاب في سياقات غير متعلقة بالترفيه، بهدف تحفيز السلوك وزيادة التفاعل، من خلال إضافة مكونات مستوحاة من الألعاب من شأنها أن تجعل الأنشطة (الخارجة عن نطاق ما يسمى بالألعاب) أكثر متعة وتشويقًا وتفاعلية كما لو أنها لعبة.
لقد رأيت مؤخرًا العديد من التطبيقات العملية لهذا المفهوم، في التطبيقات الهاتفية للياقة البدنية، ومنصات التعلم الإلكتروني، وبرامج الولاء، حتى إن هناك تطبيقات شهيرة للتعليم المالي والتمويل الجماعي تستخدم سياقات اللعب لتحفيز مستخدميها، وأضيف مثالًا أكثر قربًا في تطبيق reddit الذي يخلق منافسة ممتعة بين المثقفين ناشري المحتوى عبره، ولنقل إن العنصر الأساسي للتلعيب هنا هو الانتقال عبر المراحل بكامل الحماس والتحفيز تمامًا كما في الألعاب الإلكترونية.
هذه التقنية الآخذة في النمو، التي يجري سحبها إلى التسويق للاستفادة منها في تعزيز تفاعل العملاء وولائهم، وفي الشركات لتحفيز الموظفين على اكتساب المهارات الجديدة... ومع ذلك، نجد كثيرين ممن يعيشون معنا ما زالوا يشيطنون وسائل الترفيه الرقمية بما فيها "الألعاب الإلكترونية"، والحجة هي الخوف على مستقبل أبنائهم، ولا يكفون عن النظر إليها بريبة وكأنها "شر مطلق"، داعين إلى مقاطعتها كليًّا، محيطين أنفسهم بأسوار وقوالب جامدة، دون أي محاولة جادة لفهم الجديد وتوظيفه بطريقة صحيحة.
بالتأكيد إن أي تقنية جديدة ستكون محفوفة بالمخاطر إن لم تستخدم بشكل صحيح ودون معايير. ويمكن للألعاب الإلكترونية أو اللعبنة في مكان ما أن تقود إلى نتائج غير مرغوب بها. كل شخص يهمل في قيادة سيارته معرض لأن يرتكب حادثًا، ولكن هل الحل في العودة إلى وسائل النقل القديمة؟! أم بقبول التحدي والتفكير كيف نحسّن قيادتنا ونحدّث مركباتنا بكل عوامل الأمان؟!
في عالم اليوم، أصبح اللعب والترفيه جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان، ومع ظهور التلعيب، تتزايد الفرص للتحليق إلى آفاق جديدة في مجال الأعمال. ولكن لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه الفرص، يجب أن نتبنى هذا المفهوم بذكاء وفهم عميق، فالتهديد الحقيقي ليس في الألعاب بحد ذاتها، بل في العقول التي لا تدرك إمكانيات هذه الأدوات لتحفيز الإبداع والابتكار، وبث الحيوية في قطاعات الحياة؛ إذ إن هذه الأدوات تحفز الطفل الذي يطل خجولًا من وراء الجدار داخل كل واحد فينا، ذلك الطفل الذي يحثنا على إعادة استكشاف العالم بشغف وفضول.