بينما يمر العالم بظروف اقتصادية بالغة الصعوبة وتحديات ضخمة، تجد صناعة المنتجات الفاخرة نفسها مضطرة إلى العمل بجد أكثر من أي وقت مضى للاستمرار والبقاء والتطور، إذ إن المستهلكين الذين تتوجه إليهم، حتى وإن كانوا من أصحاب الثروات، لا ينفقون بشكل عشوائي دون تمحيص ودراسة.
فهم يتعاملون مع مشترياتهم باهظة الثمن بعناية، ويبحثون عن العلامة التجارية والمنتج قبل الشراء، حتى وإن بدت السلع شديدة التألق، وهو الأمر الذي ينطبق على قطاع الأزياء الراقية، الذي ربما لا تدل على حقيقة وضعه قوائم الانتظار أو حتى الطوابير الطويلة أمام بعض علاماته الفاخرة لتلقف كل جديد!
وحسب الخبراء، فإن دور الأزياء الراقية تجتهد إلى أبعد الحدود لتحقيق معادلة من نوع خاص، لتتمكن من الحفاظ على الصورة الذهنية لعلامتها الفاخرة، والأسعار المتناسبة معها ومع تاريخها وخبرتها، بالإضافة إلى تحقيق أقصى درجات الجودة الممكنة.
وهنا تتجسد أهمية مستشاري المبيعات لدى هذه العلامات، الذين يسعون لتحقيق مثل هذه النتائج من خلال الالتفاتات الأكثر ذكاءً، إذ أوجدوا طرقهم الخاصة للترويج، وكذلك لتحقيق أفضل المكاسب بالرغم من الظروف التي تمر بها مختلف الأسواق.
الطرف الثالث
قد تكون هذه الحيلة هي التجسيد المثالي لأهم تلك الحيل التي أوجدتها دور الأزياء الراقية، التي أدرك مستشارو المبيعات فيها ومنذ وقت طويل حقيقة سعي بعض الأثرياء لتحقيق التفرد والفوز بالتميز.
ومن ثم فإنهم أدركوا أيضًا أن المطاردة هي جزء من هذا التشويق لشحن أحاسيس الانتصار لدى زبائنها بعد التغلب على العقبات التي يتعين على الزبون القفز لتجاوزها قبل أن ينال جائزته من إبداع العلامة، وهي أمور بالنسبة لهؤلاء الزبائن من عشاق الفخامة تعادل أهمية المنتج نفسه. ولهذا السبب أصبحت الندرة جزءًا من طقوس العلامات الفاخرة خلال عمليات التسويق.
ولكن كيف يجري التحكم في هذا المسار؟
يرى بعض المتابعين أنه لتحقيق تلك الندرة المطلوبة يجري التحكم في العرض والطلب بإحكام، من خلال استعانة العلامة بطرف ثالث. ففي بعض الأحيان يكون ذلك هو الحل الأسهل بالرغم من كونه الأكثر تكلفة، ويتحقق ذلك من خلال بيع عدد محدد من القطع إلى وسيط موثوق بدلاً من بيعها عبر منافذ العلامة.
وقد يبدو هذا الأمر غير منطقي، ولكن إذا كانت قيم إعادة البيع مرتفعة، فإن الأسعار في متجر العلامة سترتفع أيضًا، مع التأكيد على حقيقة أن الندرة والجودة والمصدر هي حجر الزاوية في الاختيار هنا، وربما لذلك وحتى وقت قريب، دمرت العديد من العلامات التجارية الفاخرة أو أحرقت منتجاتها غير المبيعة بدلاً من بيعها بسعر أرخص حفاظًا على صورتها الذهنية عند الجميع!
عروض الأزياء
الحيلة الثانية تبرز في عروض الأزياء، وحسب الإحصاءات فقد تسببت فترة الإغلاقات التي فرضتها جائحة كوفيد 19 في تقلص الأعمال التجارية الفاخرة كصناعة الأزياء والموضة بنسبة تصل إلى 35٪، وهو أمر منطقي في مثل ذاك التوقيت، إذ لم يكن الزبائن بحاجة إلى ارتداء أزياء باهظة في وقت لن يراهم فيه أحد.
إلا أن الأمور سرعان ما تبدلت بمجرد رفع القيود المفروضة وانتهاء الإغلاق، مع صعود معدلات التسوق في كل من الصين واليابان وكوريا على سبيل المثال، وهي أسواق شكلت نحو 90٪ من نمو المنتجات الفاخرة خلال العام الماضي.
وحسب الخبراء فإن لعروض الأزياء دورًا واضحًا في ذلك، إلا أن لهذه العروض الضخمة تكلفة طائلة بملايين الدولارات، بسبب الدعاية الضخمة والعارضين والعارضات والحضور. لذلك من الطبيعي أن يعتقد البعض أن الملابس تمنح تلك الدور أكبر قدر من العائدات.
ولكن ذلك لا يقترب من الحقيقة، إذ إن عروض الأزياء الإبداعية الفاخرة ليست في الواقع سوى جزء من الاستراتيجية التسويقية الكبيرة لمعظم العلامات الراقية. وعلى سبيل المثال فإن معظم ما تعرضه دور أزياء راسخة مثل ديور وغوتشي من الملابس لا يُباع حقيقة في المتاجر!
لذا إذا كنت قد تساءلت يومًا حول من سيرتدي مثل هذه الملابس الغريبة باستثناء ليدي غاغا مثلاً، فأنت محق لأن الناس لا يرتدونها أبدًا. ولكن رؤية هذا الزي الفائق الأناقة وما يمثله من فخامة خلال عروض الأزياء تلك، ربما سيجعلهم يشترون قميصًا أو فستانًا أنيقًا أو إكسسوارًا مبدعًا من العلامة. أما ما يقدم خلال هذه العروض من إطلالات غريبة، فلا يُنتج في غالب الأحيان ولا يصل إلى أرض المتجر أبدًا.
التصاميم غير المألوفة
الحيلة السابقة تنقلنا بدورها لهذه الحيلة الإبداعية، إذ يتنافس مصممو دور الأزياء المختلفة على تقديم تصاميم خارجة عن المألوف، بعضها بهدف استعراض مهارات التصميم وتطويع الخامات ولفت الأنظار للعلامة وطبعها في الذاكرة، والبعض الآخر للترويج لإبداعات العلامة المتجددة.
وخلال فترة الحظر بسبب الجائحة، تنوعت هذه الابداعات لتقدم أشكالاً مختلفة تناسب الظروف الراهنة، كتقديم الأزياء الرياضية، التي سرعان ما تجاوز نجاحها التوقعات إذ انتشرت بشكل كاسح.
قدمت الدور أيضًا الأزياء متعددة الاستخدامات، والفساتين والمعاطف، بل الأحذية والحقائب ذات المكونات المتعددة والمنفصلة، والتي يمكن ارتداؤها في أي مكان عبر تنسيقها في إطلالات مختلفة. فقد استطاعت كبرى العلامات، مثل هيرميس وغوتشي ولورو بيانا أن تنتج بشكل متزايد قطعًا أنيقة وقابلة للتحويل، آخذة زمام المبادرة من عالم الجواهر الراقية، حيث التيجان التي تتحول إلى مشابك والمعلقات التي تتحول إلى أقراط والقلائد التي تتحول إلى أساور.
فضلاً عن ذلك، أعادت دور الأزياء تصنيف مواسمها، مع تقديم خطوط موسمية غير واضحة في كثير من الأحيان لتناسب أوقاتًا مختلفة، بحيث يمكن ارتداؤها على مدار العام، مع تقديم تشكيلات أيقونية غير موسمية، بالإضافة إلى ابتكار منتجات جديدة، والاهتمام بالاستدامة والبيئة، واستكشاف أقمشة وألوان مبتكرة، مع الاستعانة بالموهوبين، والبحث العلمي، واستخدام تكنولوجيا الموضة المتسارعة كالتصميم الرقمي.
يُضاف إلى ذلك بذل جهد كبير لتطوير الاتصال الافتراضي بزبائنها عبر القنوات الرقمية، لإتاحة التفاعل بإيجابية مع العلامة ومنتجاتها المختلفة، ومن ثم فتح أسواق جديدة لكل ما هو جديد لديها من منتجات تحقق الملايين من الأرباح سنويًا، ولكن كيف؟
التسويق العاطفي!
خلال بحث أجرته مؤسسة Exane BNP Paribas حول نحو 1000 فستان من 29 علامة مختلفة، تبيّن أن متوسط السعر بلغ نحو 9265 دولارًا. وحسب المؤسسة فإن هذا الرقم يغطي بالكاد تكاليف التصنيع باهظة الثمن والمواهب الإبداعية ومساحات العرض وعروض الأزياء.
بالإضافة إلى ذلك، كان على أكبر العلامات التجارية إنتاج ما بين 8 مجموعات إلى 12 مجموعة من الأزياء سنويًا لتغطية تلك التكلفة حتى عام 2020، فيما كانت تخاطر من دون وجود أي ضمانات للبيع بالسعر الكامل!
قد تجسد هذه النتيجة بشكل واضح حجم التحدي الذي تواجهه دور الأزياء للبقاء والاستمرار والتطور، إذ عليها التكيف والسير بخطوات تجمع بين الثقة والمرونة لجني الثمار، مع ملاحظة أن الهدف في عالم الملابس صار ينحصر هنا في الحد من خسارة الأموال، وفي أفضل الظروف السعي لتحقيق هامش من الربح، بينما تعطي الغالبية العظمى من الناس الأولوية للاستثمار في بنود أكثر خلودًا من الملابس. فكيف إذن تحافظ تلك العلامات على وجودها بالرغم من خسارتها للأموال في قطاع الملابس؟ وكيف تحقق أرباحها السنوية الكبيرة؟
حسب الخبراء فإن الإكسسوارات والعطور والحقائب والجواهر هي مصدر الإيرادات الحقيقي لدور الأزياء، فيما تمثل الأزياء إطارًا حاميًا فحسب للحفاظ على العلامة وحصرية وجودها، إذ يكمن جوهر الفخامة في الشعور بالوجود في نادٍ حصري من المشاهير والارتباط به، وهو أمر يطلق عليه في لغة التجارة والأعمال "التسويق العاطفي".
فبدلاً من التسويق المباشر للمنتج الحقيقي، فإن دور الأزياء تسوق هنا لحلم الرفاهية الذي تستمر عروض الأزياء في بيعه. فهنا لا تشتري المنتجات بقيمتها الحقيقية، بل بقيمة ما تحمله من أحاسيس بالتفرد والفخامة، ومن ثم شراء تذكرة الدخول في عضوية ذلك النادي الحصري والخيالي للعلامة.