قد لا يكون موضوع الطبيعة مفهومًا طارئًا في عالم الجواهر. فلطالما أدرك كبار الصاغة في هذا القطاع افتتان الإنسان ببيئته الطبيعية ومظاهر الحياة فيها، فعكفوا على نظم هذا الشغف روائع حلي تغتسل ببريق الحجارة النفيسة. غير أنه من الصعب أن تغفل الأبصار عن الحضور اللافت والأقوى لموضوع الطبيعة في إبداعات الصنّاع خلال السنتين الأخيرتين، ربما بتأثير من تداعيات جائحة كورونا وبدء انحسار الأزمة.
ربما هو الأمل بغد أفضل ألهمته طبيعة لم تتنكر لسيرتها الأولى حتى عندما بدا عالم البشر معلقًا في المجهول.
وإذ استمرت دورة حياة الأرض من شروق الشمس إلى مغيبها، وتلألأت نجوم في عتمة الليل، وعزف البحر لحن موجه، وتعاقبت فصول وتفتحت زهور، تفوق المبدعون في عالم الجواهر الفاخرة، على ما تشهد أحدث ابتكارات دور مثل بوشرون، وتيفاني أند كو، وشوميه، في محاكاة هذا الألق الذي لا ينقضي، بل إعادة تصوّره عجائب رُصعت بألماس وياقوت وزمرد وبألف إشراقة من ألوان نفائس الحجارة.
Boucheron Ailleurs
إلى مكان آخر
يُحسب لكلير شوان، المديرة الإبداعية لدار بوشرون، أنها تتقن فن الحلم بغير الممكن، فتدفع دومًا بحدود المتوقع والمألوف لتجيء بابتكارات تستلب الناظرين إلى فضاءات من خارج عالمنا.
وفي مجموعة بوشرون الأخيرة التي تحمل اسم Ailleurs، تجسّد هذا الميل عند شوان دعوة صريحة للارتحال إلى تلك الفضاءات، أو "إلى مكان آخر" على ما تشير دلالات الاسم. لكن اللافت أنه مكان تأثث حرفيًا بعناصر الطبيعة في حالتها الأولى غير المصقولة.
Boucheron
قرط Papillon Diamant، مشغول من التيتانيوم ومرصّع بألماسات بنية اللون. ويثري القرطَ حجر ألماسي على شكل لؤلؤة يحيط بشحمة الأذن.
بإيحاء من الصحاري والمحيطات، والجبال والغابات المطرية، تصوّرت شوان خمسة عوالم مختلفة لتنبعث جماليات الطبيعة وعناصرها الشاعرية من تلاقي أفكار بل مواد كانت لتبدو في ما خلا ذلك متناقضة.
بل إن أحدًا ما كان ليظن أن يجتمع الألماس مع الحصى والخشب المحروق، أو الذهب مع الراتان والنيازك، إلا أن هذا ما حققته الملكة الإبداعية لشوان والبراعة الحرفية لاستوديو بوشرون.
Boucheron
مشبك Bois Diamant المصمم في هيئة بتلات منحوتة من خشب ورد سانتوس ومثبتة فوق هيكل من الذهب. وتكمل تفاصيل الزهرة مدقات من التيتانيوم تغتسل بضياء الألماس.
في سلسلة Earth Woman (امرأة الأرض) على سبيل المثال، احتفت الدار بقوة الطبيعة وعالم الجواهر البدائي عبر تصاميم تستلهم الأشكال العضوية للنبات والحيوان، ليتجلى مشبك Bois Diamant في هيئة بتلات زهرة خيالية مُسحت كل بتلة منها ونُحتت في خشب ورد سانتوس قبل أن يُصار إلى تثبيتها فوق هيكل من الذهب.
أما مدقات الزهرة، فشُكلت من التيتانيوم ورُصعت بحبيبات الألماس لتهتز وتتراقص بخفة مع كل حركة للمشبك. وعلى ما هو متوقع، حيث تتفتح الزهور تخفق فراشات استحضرت بوشرون حركتها الرقيقة في قرط منفرد للأذنين صيغ من التيتانيوم ورُصع بألماسات بنية اللون.
Boucheron
عقد Bois Brûlé Diamant، صيغ من الخشب المحروق والذهب الأبيض المرصع بالكامل بحبيبات الألماس.
يحضر الخشب أيضًا في سلسلة Volcano Woman (سيدة البركان) التي تصوّر قوة الحمم في عالم قصي يلتقي فيه الأسود والأبيض، ويختزله خصوصًا عقد Bois Brûlé Diamant الذي يعكس بتصميمه المبسّط تقارب الألماس والخشب المحروق المجتزأ من شجرة بلوط عمرها ثلاثة آلاف عام والمنفذ بتقنية الإحراق اليابانية التقليدية "تشو سو غي بان".
لكن معاني التفرّد في مجموعة Ailleurs لا تقتصر على استخدام مواد غير تقليدية، بل تتعداه إلى توظيف تقنيات مبتكرة في محاكاة الطبيعة. هذا ما تشهد عليه مثلاً سلسلة Leaf Woman (امرأة أوراق الشجر)، وخصوصًا سوارFeuillage Diamant الذي يبدو محبوكًا من الأوراق الطبيعية الخضراء في حين أنه صيغ من الألمنيوم باستخدام تقنية المعالجة الكيميائية الكهربائية لترسيب طلاء إيبوكسي على المعدن المرصّع بالألماس.
Boucheron
سوار Feuillage Diamant، صيغ من الذهب الأبيض والتيتانيوم المعالج تقنيًا، ورُصع بحبيبات من الألماس. ويتوّج مركز السوار حجر من التورمالين الأخضر يزن 36.67 قيراط.
Tiffany & Co Botanica
ربيع لا يشيخ
قد تكفي روائع التصاميم التي شكلتها أنامل الحرفيين في دار تيفاني أند كو لمجموعة Blue Book (الكتاب الأزرق) لعام 2022 شاهدًا على التوجّه الصارخ اليوم إلى استحضار ربيع لا يشيخ. فالمجموعة التي حملت في نسختها الجديدة اسم Botanica (أو عالم النباتات) تجلّت رياضًا متخيلة تتباهى بضياء الألماس وبريق الأحجار الكريمة الملونة.
Tiffany & Co
عقد Dandelion، صيغ من البلاتين في خمسة صفوف مرصعة بالألماس وتنتهي في المركز إلى ألماسة براقة بالقطع الدائري تزن نحو 12 قيراطًا مستحضرة شكل بذور الهندباء.
وإذ استنبطت الدار مؤثرات تصميمية متمايزة من إرثها الإبداعي، استعادت جماليات العالم النباتي، من أزهار السحلبية والهندباء إلى نبات الوستارية والنباتات الشوكية، في تصاميم عصرية مبتكرة لقطع جواهر قابلة للتحوّل.
تمثل أحد العناصر الكلاسيكية التي أعيد ابتكارها لمجموعة Botanica في تصاميم تجريدية تتدثر بالألماس، ببذور نبات الهندباء التي اقتطفتها الدار من حلية للشعر كان لويس كومفورت نفسه قد أبدعها في مطلع القرن العشرين.
وتمايز ضمن هذه التصاميم عقد يشهد على حرفية تيفاني أند كو العالية بقدر ما يوثق حس الابتكار عندها، إذ أتاحت آليات صياغته المبتكرة الجمع بين قلادتين قابلتين للتبديل، وطوق ألماسي، وسلسلة طويلة من الألماس، ما يتيح التزيّن به بخمسة أساليب مختلفة.
كان للأشواك نصيب أيضًا من ربيع تيفاني أند كو التي شكلت خطوطها الحادة من نفائس حجارة رُصفت يدويًا في زوايا دقيقة ومواضع متقاربة لتغطي كل سطح ظاهر.
Tiffany & Co
مشبك قابل للتحول مشغول من البلاتين على نسق سحلبية مرصعة بالألماس ومزدانة بتفاصيل نُحتت من الذهب الأصفر.
أما زهرة السحلبية، فأعيد تصوّرها في تصاميم منحوتة بدت أقرب إلى نسخة أكثر واقعية تطوّرت من المشابك التي أبدعها جورج بولدينغ فارنهام لصالح دار تيفاني في معرض باريس الدوليParis Exposition Universelle لعام 1889. في أحد المشابك الجديدة المتحوّلة، تفوق حرفي من الدار في ترويض البلاتين ليستنسخ به التموجات الدقيقة لبتلات السحلبية، ورصف كل بتلة منها بضياء فسيفساء من ألماسات مختلفة القطع اخترقتها لمسات من بريق الذهب الأصفر.
وفي سياق مماثل، استعادت الدار عنصر الإبهار الذي ميّز مجموعة وفيرة من جواهر نباتية الطابع أثرى بها المصمم الأسطوري جان شلومبيرجيه مخزون تيفاني الإبداعي على مر نحو عقدين من الزمن.
وكانت النتيجة أن تحوّل الرسم الذي ابتكره شلومبيرجيه في الأصل لألماسة تيفاني الصفراء الشهيرة Tiffany Diamond إلى قطعة جواهر حقيقية، ليبصر التصميم النور للمرة الأولى في سوار Fleurage الذي تشكل من بتلات زهرة ألماسية ورُصّع بحجر أكوامارين آسر يزيد وزنه على 48 قيراطًا.
Tiffany & Co
سوار Fleurage المشغول من البلاتين والذهب الأصفر في هيئة سلسلة من الزهور مرصوفة بالألماس. ويزهو مركز السوار بحجر أكوامارين يزن أكثر من 48 قيراطًا.
Chaumet Ondes et Merveilles
تطواف في عالم البحار
لطالما استلهمت دار شوميه عناصر الطبيعة المتنوعة لتصوغ على نسقها جواهر غاية في الحسن والبهاء، فاستقت تصاميمها حينًا من الأزهار بتدرجاتها اللونية الزاهية، وحينًا من بريق أشعة الشمس المتساقط على الجليد. بل إنها وجدت الإلهام أيضًا في انحناءات سنابل القمح وحركة النجوم ورفرفة أجنحة الطيور.
ولكنها المرة الأولى التي تطرح فيها الدار مجموعة كاملة استلهمتها من البحر وعوالمه، وشبّعتها بحيويته الفيّاضة وإيقاعاته الصاخبة.
Chaumet
عقد Escales، صيغ من الذهب الأبيض والوردي، ورُصع بالألماس والإسبنيل الأحمر المائل إلى اللون البرتقالي، والياقوت الأزرق، وتورمالين بارايبا.
في مجموعة Ondes et Merveilles (أمواج وعجائب)، يتجلى إبداع شوميه في تسعة وستين تصميمًا أخاذًا تحاكي تفاصيلها متقنة الصنع أمواج البحر المتلاطمة، وكنوز الأعماق المستترة، والتيارات المائية المتدفقة.
وعلى ما ألفناه في إرث شوميه الإبداعي، تفوقت قطع المجموعة بعضها على بعضها من ناحية الطابع الأنثوي الذي تجلّلت به ومن ناحية أساليب ارتدائها، وتنوعت تصاميمها القابلة للتحوّل، من جواهر الرأس التي تصير مشابك للزينة، والعقد الطويل الذي يصبح قصيرًا، إلى الأقراط المتدلية التي يسهل التزيّن بها على نحو مختلف في كل مناسبة.
وفيما يطوف بنا كل تصميم في عالم البحار، يحكي قصته الخاصة التي تبوح بفصولها تدرجات لونية مبهرة وأساليب مبتكرة لرصف الأحجار النفيسة. هكذا تتعاقب حكايات البحر وأغواره في روائع جواهر مرة تستحضر تفاصيلها الألماسية الوضّاءة مشهد أمواج متراكبة تتدافع متسابقة للوصول إلى الشاطئ، ومرة تتجانس فيها ألوان الياقوت الأزرق وتورمالين بارايبا والزمرد كأنها بعض من دفق تيار الخليج الدافئ في فلوريدا.
وثمة حكايات أخرى تارة نُظمت من بهاء اللؤلؤ ونفائس الحجارة أنشودة حوريات أو مذنبات بحار، وطورًا صيغت من الذهب والألماس والمروغانيت والياقوت على نسق حصاة مغمورة بالموج تلتمع تحت أشعة الشمس، أو نُسجت من ألوان العقيق والياقوت والزمرد والإسبنيل والتورمالين لتماثل رحلة البحث عن الكنوز في أعماق الشعاب المرجانية.
وفيما كانت أشعة الشمس حاضرة في حكاية تشكلت أبجديتها الشاطئية مزيجًا من ألوان حجارة الروبليت والعقيق الوردي والبرتقالي، لم تستثنِ دار شوميه مشهد جمع الأشرعة ورسو المراكب في المرافئ ساعة الغروب، فأعادت ابتكاره في طقم حمل اسم Escales وجسّد بصدق تفوق دار أتقنت فن الألوان.
Chaumet
ساعة Escales، مشغولة في علبة من الذهب الأبيض والوردي ومرصّعة بالألماس والعقيق الأحمر الذي يكسو الميناء أيضًا. أما السوار، فيغتسل بألوان حجارة الإسبنيل الحمراء، وتورمالين بارايبا، والياقوت الأزرق، والعقيق الأحمر، والألماس.
فعلى عقد قصير مشغول من الذهب الوردي والأبيض، انتظم صفّ من أحجار الإسبينل بلون أحمر قرميدي في محيط دفق الأمواج الذي تشكل من تشابك ضياء الألماس وبريق أحجار الياقوت والتورمالين التي تستحضر بتدرجاتها اللونية صورة المياه الشفافة.
وفيما استوت الأقراط في بهاء آسر بفضل ألوان الأحجار الكريمة الزاهية، اصطفت فوق الخاتم، المرصّع بحجر من تورمالين بارايبا على هيئة حبة كمثرى، أحجار من الإسبينل تستحضر الحركة المهتزة للقوارب عند رسوها.
وعلى ما يليق بشاعرية وقت يكرّس رسو المراكب ساعة الغروب، أثرت شوميه هذا الطقم بساعة بديعة توثق ألق هذا المشهد بدفء ألوان حجارتها النفيسة.