في بلدٍ تتقاطع فيه قنوات الماء مع خطوط العمارة، وتحتضن فيه المدن إرث رامبرانت وفيرمير وبصمات فان غوخ، تشهد هولندا اليوم ولادة جيل جديد من المتاحف لا يكتفي بعرض الأعمال، بل يعيد النظر في دور الفن، والمكان، والسردية، كجزء من خطة طموحة تهدف إلى إعادة ترسيخ مكانة هذه البلاد، التي تحتضن مدنًا يعود عمرها إلى أكثر من 700 عام، على الخريطة الثقافية العالمية. 
وبفضل دعم غير مسبوق من مؤسسات خاصة ورعاة من عائلات ثرية، تتصدّرهم عائلة فان دير فورم التي تنظر إلى الفن بوصفه وسيلة لإعادة بناء المدن، تُعيد هولندا اليوم رسم ملامح مشهدها الفني من خلال متاحف هولندا المتعددة، من روتردام التي احتفت بذاكرة الهجرة عبر فينيكس، إلى زاندام التي تستعد لمشروع زامو الطموح، وصولاً إلى قلب أمستردام، حيث تُصاغ معالم مؤسسة هارتويغ بوصفها رؤية حضارية متكاملة.

يتكشّف مشهد ثقافي نابض يتجاوز الجدران البيضاء، ويعيد تعريف المتحف ليس بوصفه مساحة للحفظ فحسب، بل من حيث كونه أيضًا مختبرًا للهويّة، والتجربة، والتفاعل الإنساني.

فينيكس: متحف الهجرة والفن المعاصر في روتردام

في قلب حي كاتندريخت التاريخي، حيث تأسست أول منطقة صينية "تشاينا تاون" في أوروبا، يتجلى متحف فينيكس Fenix مشروعًا فنيًا يروي قصص الهجرة البشرية من خلال الفن. 

وقد بدأت الفكرة برؤية من المدير السابق لمتحف ريكز Rijksmuseum ، ويم بيجبس Wim Pijbes، من دون امتلاك أي مجموعة فنية، وإنما الموضوع والشغف والرؤية فحسب.

إن اختياره لمعماري آسيوي لم يكن عشوائيًا، بل وقع على الصيني ما يانسونغ، مؤسس مكتب MAD Architects، إذ أراد من خلاله أن يعكس روح المشروع عبر تصميم يحمل في تفاصيله حركة، وتأملًا، وعمقًا بصريًا. 

فجاءت النتيجة درجًا فولاذيًا متموجًا يلتف حول المبنى كتمثال متحرك، يُحاكي رحلة داخلية تبدأ بالصعود وتنتهي بنظرة بانورامية على ميناء روتردام، وتحديدًا على رصيف الدموع Pier of Tears، حيث ودّع ملايين المهاجرين عائلاتهم متجهين إلى أمريكا الشمالية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

المتحف، المُقام على مساحة تزيد على 16 ألف متر مربع داخل مستودع ميناء قديم، لا يعرض أعمالاً فنية فحسب، بل يقدّم سردًا مؤثرًا لتجربة الهجرة عبر العصور والثقافات. 

من أبرز المعروضات: زورق مهترئ جرت مصادرته من مهاجرين أفارقة في أثناء محاولتهم عبور البحر نحو جزيرة لامبيدوسا، وسلسلة صور للمصور الأمريكي غوردون باركس توثق قسوة الفصل العنصري في أمريكا في الخمسينيات، وعمل تركيبي للفنان دان فو يعيد تفكيك تمثال الحرية، داعيًا إلى إعادة التفكير في مفاهيم الوطن، والاستقبال والرفض.

ورغم جدية الموضوعات، إلا أن القائمين على المتحف حرصوا على خلق توازن بين المأساة والأمل. فالهجرة، كما يقدمها المتحف، ليست معاناة فحسب، بل قصة إرادة وهوية ونجاة، تُروى من خلال أفراد وعائلات ومجتمعات غيّرت وجه التاريخ.

يقف خلف هذا المشروع الطموح مؤسسة الحلم والفعل Droom en Daad، التي تموّلها عائلة فان دير فورم، إحدى أغنى العائلات الهولندية التي جعلت من روتردام مركزًا لنهضة ثقافية جديدة. فرؤيتهم، كما يصفها بيجبس لمجلة Robb Report، لا تقتصر على بناء متحف، بل "خلق شيءٍ عظيم يدوم مئة، أو حتى ثلاثة آلاف عام".

متاحف هولندا تعيد رسم خريطة الفن المعاصر.. بين السرد والهجرة

Fenix

المتحف الوطني للتصوير الفوتوغرافي 

بعد سنوات من الانتظار، حصل المتحف الوطني للتصوير الفوتوغرافي في روتردام على دعم مالي غير مسبوق بلغ 46 مليون دولار، وهو أكبر تمويل يُمنح لمؤسسة ثقافية في تاريخ هولندا. وقد انتقل المتحف إلى مبناه الجديد داخل مستودع سابق مؤلف من ثمانية طوابق جُدد بالكامل، وافتُتح في خريف هذا العام، ليشكل نقطة تحول في مشهد التصوير الفوتوغرافي الأوروبي، ولذا يعد من أبرز متاحف هولندا.

حديقة راينهافين 

على ضفاف نهر نيوا ماس، تقع راينهافين حديقة Rijnhaven الحضرية التي تمتد على 54 فدانًا وتضم شاطئًا عامًا. صممها مايكل فان فالكنبرغ، مهندس المناظر الطبيعية الشهير الذي يقف خلف حديقة جسر بروكلين في نيويورك.

ZAMU: مدينة الفن المستقبلية في زاندام

في مدينة زاندام الواقعة شمال غرب أمستردام، يقود خبير الفنون إرنست مورمانز والمطور العقاري سيرج هانيكارت مشروع زامو ZAMU  (متحف زانستاد أمستردام) الذي يهدف لتحويل قاعدة عسكرية مهجورة إلى مجمع فني متكامل يمتد على مساحة تقارب 400 ألف متر مربع.

من المقرر افتتاح المشروع عام 2026، وسيضم متاحف متعددة، ومعارض مؤقتة، ومساحات للفنانين المقيمين، وأجنحة مستقلة تُمنح لفنانين عالميين لتطوير أعمالهم ضمن تجربة أشبه بمدينة فنية مصغّرة.

تحيط بالمتحف حدائق من تصميم بيت أودولف، مهندس المناظر الطبيعية الشهير الذي يقف خلف حديقة هاي لاين في نيويورك. أما الوصول إلى المجمع، فسيكون عبر قوارب من أمستردام أو على متن الدراجات، على ما يليق بمدينة هولندية تنسج العلاقة بين الفن والاستدامة.

متحف هارتويغ للفن المعاصر في أمستردام

في أمستردام، وعلى بعد خطوات من ثلاثية المتاحف الكبرى التي تقع في ساحة المتاحف Museumplein - ريكز، فان غوخ، وستيديليك - تعمل مؤسسة هارتويغ المدعومة من قطب التجارة الإلكترونية روب ديفاريس على تحويل مبنى محكمة أمستردام السابق إلى متحف جديد للفن المعاصر، يمتد على 20 ألف متر مربع.

يشمل المشروع ورش عمل، وصالات عرض، ومساكن فنية، ومقرات لمنظمات ثقافية غير ربحية، ومطاعم، وشققًا للإقامة القصيرة. وقد وُصف المتحف من قبل بعض النقاد بأنه "مكتبة الإسكندرية الجديدة"، في إشارة إلى طموحه المعرفي والثقافي.

تشبّه بياتريكس روف، المديرة السابقة لعدد من المؤسسات الفنية البارزة والمشرفة على المشروع، في تصريح لمجلة Robb Report متحف هارتويغ بمكتبة الإسكندرية، بوصفه مؤسسة تُجسّد فكرة "المشاركة المدنية العامة" أكثر من كونه متحفًا تقليديًا. وإلى حين الافتتاح الكامل المرتقب في عام 2028، يعمل المتحف من فضاء مؤقت، ويُنتج أعمالاً فنية لصالح الدولة الهولندية بالتعاون مع فنانين عالميين.