في واحدة من القصص النادرة التي تجمع بين المصادفة، والحدس، والفن، بيعت لوحة منسية للفنان الهولندي الشهير فرانس بوست تحمل اسم View of Olinda, Brazil, with Ruins of the Jesuit Church مقابل 7.37 مليون دولار خلال مزاد لدار سوذبيز، محققة رقماً قياسياً جديداً لهذا الفنان الذي عاش في القرن السابع عشر، وكان من أوائل الأوروبيين الذين رسموا مناظر طبيعية للبرازيل خلال الحقبة الاستعمارية.
البداية: لوحة مغبرة في علية حظيرة
في عام 1998، تلقى جورج واتشر، رئيس مجلس الإدارة والرئيس العالمي المشارك لقسم لوحات الفنانين القدامى في دار سوذبيز للمزادات، معلومة غريبة حول لوحة مهملة عُثر عليها في علية حظيرة بولاية كونيتيكت الأمريكية. "كانت مغطاة بالسواد، ومتسخة لدرجة يصعب معها رؤية التفاصيل"، على ما يروي واتشر لمجلة Robb Report. ومع ذلك، ساوره حدس قوي بأن ما تحت تلك الطبقات من السنين والغبار ربما يكون كنزاً فنياً.
اللوحة، التي تحمل اسم View of Olinda, Brazil, with Ruins of the Jesuit Church رسمت عام 1666، أي قبل نحو 359 عاماً، وتُعد من أبرز أعمال بوست، الذي كرّس جزءاً كبيراً من مسيرته الفنية لتوثيق الطبيعة الغنية والمناظر الاستوائية في البرازيل، مستلهماً ذلك من فترة إقامته فيها خلال السيطرة الهولندية القصيرة على المنطقة.
ترميم استثنائي.. وولادة جديدة
بعد توصية واتشر، اقتنى جامع الأعمال الفنية توماس أ. سوندرز الثالث، الرئيس السابق لمؤسسة التراث، وزوجته جوردان، اللوحة ضمن مجموعتهما الخاصة.
لكن قبل أن ترى النور مجدداً، خضعت لتدخل دقيق على يد الخبيرة نانسي كريغ، إحدى أبرز مرممات لوحات العصر الذهبي الهولندي في نيويورك. بدأت كريغ بفتح "نافذة صغيرة" في السماء المرسومة، فظهر الأزرق الصافي والأبيض المشرق، في لحظة وصفها واتشر "بالسحرية".
مع مرور القطن المغموس بالمحاليل المنظفة فوق سطح اللوحة، بدأت تتكشف ملامح مشهد ريفي ينبض بالحياة: حيوانات تجوب الزرع، شخصيات صغيرة متناثرة، وكل ذلك في لوحة قياسها 60 × 90 سنتيمترًا تقريباً، وهو حجم كبير نسبياً بالنسبة لأعمال بوست.
من البرازيل إلى باريس ثم كونيتيكت
تحمل اللوحة توقيع F. Post وتاريخ 1666، وقد انتقلت عبر قرون من الزمن بين أيدي جامعي الفن الفرنسيين، وذُكر أنها كانت ضمن مقتنيات الكاردينال جوزيف فوش، خال نابليون بونابرت، وأحد أعظم جامعي الفن الأوروبي في القرن التاسع عشر.
يُقال إن فوش جمع حوالي 17 ألف عمل فني، بعضها كان من غنائم حروب نابليون. وتبرع بألف لوحة فنية إلى مسقط رأسه أجاكسيو في جزيرة كورسيكا الفرنسية، والتي شكّلت الأساس لمتحف فيش Musée Fesch.
انتهى المطاف بهذه اللوحة في مجموعة خاصة بولاية كونيتيكت. وليس واضحًا تمامًا من الذي وضعها في الحظيرة أو متى حدث ذلك، ولكن واتشر يعتقد أنها ربما بقيت هناك لمدة 100 عام.
وفي النهاية، اكتشفها شخص ما وأرسلها إلى معرض في لندن، حيث نسّق واتشر بيعها لعائلة سوندرز.
وبعد عملية الترميم، ظلت اللوحة معلقة لفترة طويلة في شقة العائلة في بارك أفنيو، حيث كانت تحمل معنى خاصًا توماس أ. سوندرز الثالث الذي توفي في عام 2022.
فن نادر وموقع استثنائي في التاريخ
بخلاف جودتها ومكانتها في تاريخ الفن، تأتي أهمية هذه اللوحة من السياق التاريخي الذي نشأت فيه. ففي زمن كان فيه معظم الفنانين الهولنديين يرسمون المناظر الطبيعية المحلية ووجوه الطبقة البرجوازية الصاعدة، قرر بوست الانطلاق في مغامرة فنية نادرة آنذاك.
سافر إلى البرازيل، التي كانت حينها مستعمرة هولندية، وهناك أصبح من أوائل الفنانين الأوروبيين الذين تناولوا مناظر "العالم الجديد" بوصفها موضوعات رئيسة لأعمالهم. رسم وسجّل ما رآه خلال سنوات إقامته هناك، وظل يستحضر تلك الذكريات في أعماله حتى بعد عودته إلى مسقط رأسه، مدينة هارلم الهولندية.
"إنها إحدى أعظم أعماله، دون شك" بحسب قول ديفيد بولاك، نائب الرئيس الأول ورئيس قسم لوحات الفنانين القدامى في دار سوذبيز. ويضيف بولاك: "هذه اللوحات كانت بطاقة تعريفه؛ مشاهد البرازيل كانت بمنزلة توقيعه الفني".
وبعد أكثر من عقدين، وفي أقل من دقيقتين من المزايدة، بيعت اللوحة في دار المزادات بسعر أولي بلغ 6 ملايين دولار و7.37 مليون دولار مع الرسوم، وهو رقم قياسي جديد للفنان الهولندي فرانس بوست. قبل المزاد، قدّرت دار سوذبيز سعر اللوحة ما بين 6 ملايين دولار إلى 8 ملايين دولار.
الجدير بالذكر أن بوست كان يحظى بجمهور هائل حتى في أثناء حياته. يوضح بولاك قائلاً: "السوق الفني آنذاك كان مفتوحًا ومتقبلًا بشدة لما يقدمه". ويضيف: "وعندما تكون أمام عمل بهذا الحجم، فهو بلا شك يجعله ضمن أبرز أعماله".