تحيل فيينا زائريها كائنات من ضياء. فحيثما وجهوا أنظارهم تراءى لهم قصر مهيب،
وإن أصاخوا السمع للحظة، يسمعون من بعيد ترانيم الدانوب الأزرق،
يدندن بها شتراوس، من قاعة رقص فخمة تمتلئ بأنغام الفالس التي ابتكرتها مخيلة أبت
إلا أن تنسج من الأحلام خطوات تتواءم مع ألحان جاءت من عوالم ساحرة.
طرقات واسعة وممرات مشاة مرصوفة، وعربات «الفياكر» تجرها الخيول تجول المدينة الحالمة، في مشهد يستعير سحر الحكايات الأسطورية وعهد الأمراء، حاملة الزوار الذين يبتسمون كثيرًا لرؤية أزياء القصور الإمبراطورية والقبعات السوداء المميزة تتوج رؤوس الخيالة ممن يتفننون في سرد تاريخ الأمكنة والشخوص. ولعل موزارت، الذي لطالما اشتكى من صلابة مقاعد هذه المركبات، سيذهل لو تسنى له رؤية نعومة وسائدها وفخامة أقمشتها الآن.
فيينا في الأصل «فيندوبونا» وباللاتينية الأصيلة: النسيم العليل. يبلغ عدد سكان العاصمة النمساوية اليوم 1.8 مليون نسمة. ويوجد في فيينا وحدها أكثر من 27 قلعة و150 قصرًا يعد أشهرها قصر «شونبرون». شُيِّد القصر الذي يشير اسمه ذو الجذور الألمانية للنافورة الجميلة التي تتوسط الحديقة المعجزة، في عام 1683. وقد قصد به أن يكون شبيهًا بقصر فرساي في فرنسا لكنه وإن لم يماثل القصر الملكي الفرنسي السابق في تصميمه الكلي، فقد رسّخ اسمه من حيث كونه واحدًا من أجمل تحف فن الباروك المعماري في العالم.
في القصر، عالم من بذخ، ومخمل، وزجاج ملوّن، ونقوش تعتلي الأسقف وتمتد على الجدران. تمتلئ ردهات القصر، الذي تحتشد فيه 1441 غرفة، بتحف فنية عديدة من طراز الروكوكو. تطوق المبنى، الذي شُيِّد في الأصل ليكون منزلاً صيفيًا لأسرة الهابسبورغ المالكة، حدائق غنّاء واسعة تمتد على 200 هكتار، وتعج بنوافير رخامية وتماثيل منحوتة ناصعة البياض تضيف للأخضر الغني مسحة من فخامة. يشتهر القصر أيضًا بمتاهته التي تفضي بمن يفلح في عبورها إلى حديقة حيوانات تؤوي عددًا من السلالات المعرضة للانقراض، هي حديقة شونبرون الشهيرة وهي الأقدم من نوعها في العالم.
اليوم، أصبح بإمكان أصحاب المزاج الارستقراطي وجامعي الذكريات أن يقضوا ليلة أو أكثر بين أروقة ملكية فاخرة ضمن جناحين باذخين يحويهما القصر، خصصا للباحثين عن الترف أو الأزواج الجدد، ممن يرغبون أن تكون ليلتهما الأولى في أجواء أسطورية وخدمة لا تليق إلا بالأباطرة.
تعج ساحة ستيفانبلاتز بالزوار على مدار العام، فهي ملتقى المطاعم والمقاهي وشوارع التسوق الرئيسة الحصرية الفخمة مثل «جرابن» و«كارنتنر شتراسه، أو شارع كارنتنر». تسمى تلك المنطقة المربع الذهبي، فهي تحتضن أيضًا ميدان المتاحف المعروف في المدينة وبرج الدانوب ومدرسة الفروسية التي تشكّل وحدها، إن غضضنا الطرف عن محاسن المدينة الأخرى، قلب فيينا وروحها.
تتخذ مدرسة الخيول الإسبانية من قصر هوفبورغ الملكي مستقرًا لها منذ عقود. شُيِّد القصر الذي يستخدم الآن مقرًا رئاسيًا لحكام النمسا، بعد أن كان مقر ملوك هابسبورغ وأباطرة الإمبراطورية الرومانية في القرن الثالث عشر، وشارك في بنائه معماريون ألمان وأيطاليون، كان أشهرهم فيليبرتو لوتشيز، ومهندسو الباروك ذائعو الصيت من أمثال لوكاس فون هيلدبراندت وجوزيف إيمانويل فيشر فون إيرلاخ.
تلوح القبة النحاسية الأثرية الشهيرة لقصر السلالة الحاكمة والتي تعتلي قصر هوفبرغ من بعيد في
مشهد لا تخطئه عين، حيث يتوسط المبنى ساحة فسيحة مرصوفة تذكّر بأمراء العهد البعيد.
جنّة من مذهبات تحضر في الداخل. يمتلئ البهو الفسيح المفضي لقاعات القصر بلوحات عتيقة توثق حقبًا مختلفة من حياة العائلة المالكة، حيث تظهر بشكل جلي مظاهر الترف الذي يتجلى على أشده في أروقة «سيسي»، الإمبراطورة إليزابيث، والتي عرفت بحبها للمقتنيات الثمينة والفريدة، وهوسها الدائم بالنحافة والجمال. تروي الأروقة الملكية في قصر هوفبورغ والذي تحول جزء منه إلى متحف، حكاية قاتمة عن صبية بافارية حسناء وقعت في حب الإمبراطور النمساوي، عن حياة «سيسي» الإمبراطورة الأسطورة وعن هواياتها، وعن اغتيالها عام 1898 في جنيف، تخبّر كل زوايا المكان.
لكن ما يحتم زيارة القصر هو وقع خطى من نوع آخر. في البال دومًا شغف بماض كان للفروسية الحقّة فيه صوت وصدى. حين كانت الخيل سيدة الميادين وكان الخيّالة فيه صائدي قلوب وحاصدي إعجاب غير متناه.
تعد مدرسة الفروسية الملكية الإسبانية، الوحيدة من نوعها في العالم، وقد حافظت منذ إنشائها في عام 1729، على فن الفروسية الأصيل
منذ عصر النهضة. عروض حية تقدمها خيول «الليبتانز» البيضاء، إسبانية السلالة، متبخترة في دروعها التقليدية المطلية بالذهب
في القصر إذًا تسمع أصوات صهيل تتخللها نداءات تشجيع، بالألمانية أو بغيرها، تستجيب الخيول لإيماءات الفرسان، يوجهونها حيثما شاؤوا في صالة بيضاء فسيحة، مفروشة بالرمل، تزينها ثريات ضخمة من الكريستال.
تُعد مدرسة الفروسية الملكية الإسبانية، الوحيدة من نوعها في العالم، وقد حافظت منذ إنشائها في عام 1729، دون غيرها من الجهات التي تعنى بركوب الخيل على فن الفروسية الأصيل منذ عصر النهضة. عروض حية تقدمها خيول «الليبيتنرانر» البيضاء، إسبانية السلالة، متبخترة في دروعها التقليدية المطلية بالذهب، أمام من قدموا لرؤية الفحول المدربة تتمايل على وقع الموسيقا في عروض من «الباليه الأبيض» تأخذ الحضور لعوالم من خيال ونغم، ورقي هي وصفة فيينا السحرية.
كأن تلك الأرض خلقت للفنون. أينما يمم الزائر وجهه صادف دعوة لحفلة راقصة أو إعلانًا عن مسرحية غنائية. والجميل في الأمر أن أهل المدينة أنفسهم يعدّون فن الرقص، وخصوصًا الفالس، كنزًا ثقافيًا وطنيًا يعتزون به، ويعلّمونه لأبنائهم. لا شيء يعادل حضور عرض موسيقي راقص في أحد قصور فيينا للتعرف إلى قدر غير يسير من ثقافة النمسا ككل، وفيينا خاصة.
ملاذ الذواقة ومتعطشي الفن ممن يؤمون المدينة هو، من غير شك، دار الأوبرا في فيينا. تقدم الدار الأعرق في العالم أكثر من 70 عرضًا أوبراليًا وعروض باليه على مدار العام. يعود المبنى، الواقع في جادة هوفبورغ في قلب العاصمة، إلى عام 1869 ويُعد وحده تحفة معمارية أخاذة. تتجلى في الخارج كما في الداخل روعة تصاميم عمارة عصر النهضة الجديدة، والتي استلهمت في الأساس من الينبوع الإيطالي. أكثر ما يميز هذه الحقبة من المعمار، تلك السلالم العظيمة الحجم والمتعددة الأدراج تتوزع بعناية في أرجاء الردهة الرئيسة الرحبة، وجداريات الفريسكو التي عمل عليها موريتز فون شويند. كما تضفي الأقواس الرخامية المرتفعة والقناطر الضخمة رهبة على المكان الذي يستجلب بأناقة مرتاديه وبذخ هندامهم، ألق الستينيات ورقي الخمسينيات من القرن الفائت.
يغذ السياح الخطى لتحفة الباروك الأجمل في فيينا، مأخوذين بسحر الحدائق الغناء التي
تطوق قصر شونبرون والتي تحوي أروقتها منحوتات رخامية رائعة الجمال.
ليست أقل من حلم. ففي اللحظة التي يتخذ فيها المرء مقعده على إحدى الشرفات، تبدأ أمواج السحر بالتتابع. تظهر أوركسترا فيينا الفيلهارمونية على المسرح، مؤذنة ببدء العرض، في قاعة احتضنت، ولا تزال، أصواتًا عالمية من أمثال إيديث غروبيروفا وآنا نيتيريبكو وغيرهما كثير.
يمكن للزائر إن أراد أن يتتبع مسار حياة موسيقيي فيينا، ممن عاشوا أو نشؤوا في العاصمة النمساوية، من أمثال موزارت، وبيتهوفن، وهايدن، وشونبرغ، وشوبيرت، ضمن جولات سياحية خاصة على الأقدام. ولعل أهم المحطات التي تتوقف عندها هذه الجولات المتخصصة هي منزل ولفغانغ موزارت.
لا ينحصر المشهد الفني في فيينا في النغم، بل للريشة أيضًا نصيبها من التكريم. ففي الجادة السابعة من المدينة يجثم مجمع المتاحف الأشهر في النمسا. تمتد المساحات الفنية الداخلية والخارجية لأكثر من 15 هكتارًا احتوت في السابق إسطبلات المحكمة السابقة، وتضم الآن متاحف معروفة أهمها ليوبولد الذي يعرض لعدد كبير جدًا من اللوحات، ومتحف موموك، أو متحف الفن الحديث، إضافة إلى استوديوهات إنتاج إعلام رقمي حديث، ومرافق ثقافية مخصصة للأطفال. كما يستضيف المجمع مهرجان السينما السنوي في فيينا. فضاء رحب للمرح والألوان. كل الزوايا تحمل رسومات، وكل الدهاليز تفضي لاستوديوهات رسامين تجريبيين اختاروا الإقامة هناك.
تمتد المتع الحسية في فيينا، لتصل إلى الأنوف، التي تلتقط في تجوالها روائح القهوة تنبعث من مقاهي المدينة. للمقاهي في العاصمة التي لا يتوقف فيها الزمن، ثقافتها المستقلة وطقوسها الخاصة. فقد ضمنت لنفسها مكانًا في قائمة اليونيسكو للتراث الثقافي. ومع كل قدح يقدم من المعشوقة السوداء، يسترجع المرء أصل الحكاية. فبين أكوام الصحف اليومية وطاولات الرخام الوردي وكراسي المقاهي الوثيرة التي تتميز بها فيينا، يتذكر الزائر أن حبوب البن جاءت في الأساس من بلاد بعيدة، وأن أول كوب من القهوة وجد طريقه للنمسا كان في أثناء الحصار العثماني للمدينة.
بعد هزيمة القوات العثمانية في القرن السابع عشر استولى الاتحاد النمساوي برفقة القوات البولندية على ما تبقى من خيام الجنود الأتراك المهجورة، ليجدوا بين الغنائم صندوقًا من حبوب البن السوداء. أحدث الشراب الغامق الذي حضّره الأتراك ضجة كبيرة في الأوساط الأرستقراطية هناك، وسرعان ما ظهرت المقاهي في أوروبا بعد ذاك بوقت قصير.
تقدّم المقاهي لروادها في فيينا مذاقات متعددة من القهوة التي بات أصحاب تلك المقاهي يتفننون في إعدادها، ولعل أشهرها قهوة «إينشبينر» وهو مزيج ثقيل من القهوة يقدّم في كأس باردة ويتوَّج بالكريمة المخفوقة والسكر الناعم. ومن المعتاد أن تقدم أصناف القهوة في فيينا محلاة بالعسل أو الكريما، إذ يقال إن مذاق القهوة المر لم يلائم أهالي المدينة، فاستحدثوا أصنافًا محلاة تقدم مع أطباق الحلوى الأصيلة التي يبرعون في تحضيرها.
الحلوى في فيينا هي أيضًا نوع من الموسيقا، خصوصًا كعكة الشوكولا الشهيرة التي ابتكرها صانع الحلوى النمساوي فرانز زاخا في سنة 1832 وحملت اسمه. صنعت الحلوى الداكنة، آنذاك، إرضاءً للأمير كليمانس فنزيل مترنيخ وذاع صيتها في أوروبا والعالم . ولا يزال سر الوصفة محفوظًا بعناية ومصانًا بحرص بين ردهات فندق زاخر الذي أسسه زاخر الابن. يحتفظ الفندق الواقع في قلب الحي الذهبي في المدينة إلى اللحظة بالوصفة التي كتبها فرانتس زاخر بخط يده في خزانته الموجودة في الفندق. وتعد شوكولا زاخر، أو كعكة زاخر، نقطة جذب سياحي مهم، كغيرها من لذائذ فيينا. فكما يستطيب لعابري المدينة أن يزوروا مواقع تصوير «صوت الموسيقا» الخلابة، ومنزل موزارت، وقصر السلالة الحاكمة، فإنهم لن يفوتوا أيضًا التمتع برقائق الشوكولا الداكنة وطبقات المشمش الغني المصحوبة بالكريما المخفوقة اللذيذة.
أما إن أراد المرء الاستزادة من عبق المقاهي التي تحف المدينة من كل حدب وصوب، فعليه بكافيه سنترال. يعود تاريخ المكان إلى عام 1876 وقد كان وجهة لفناني النمسا وسياسييها وشخصياتها الفذة، مثل زيغموند فرويد وآرثر شنتزلر، ولا يزال إلى الآن قبلة لمثقفي المدينة وأدبائها. يقدم المقهى العتيق طبق «الشنيتزل» النمساوي الأصيل، ولفائف الكرواسون الطازجة التي تحضر طوال اليوم. ينبغي للزائر أن ينتظر طويلاً أحيانًا للحصول على طاولة هناك، لكن الأمر يستحق العناء.
يقع المقهى في قصر «باليه فيرستيل»، وهو بناء باذخ يستعير تصميمه من عمارة مدينة البندقية، ويتميز بأعمال الفريسكو تغطي أسقفه ونوافذه العديدة التي تسمح للإضاءة الطبيعية بإنارة المكان الذي يتزين بأعمدة من رخام، وسقف مرتفع وأقواس مذهبة، والذي يعد فسحة مثالية لقضاء وقت الظهيرة على طريقة أهل المدينة.
إن موطن غوستاف كليميت، وأوسكار كوكوشا، وجوزف هايدن، وفرانز شوبرت يحتاج إلى عمر أو أكثر لاستكشافه، لكنه حتمًا يستحق التذوق.
تنتصب دار أوبرا فيينا في جادة هوفبورغر، على الرغم من تدميرها مرتين
خلال الحربين العالميتين، معلما وفخرًا لمدينة تعشق الموسيقا.
وماذا عن الرحيل؟ ليس بعد. ليس قبل أن يودع الزائر معالم المدينة الساحرة في جولة قصيرة عبر «الرينغ شتراسه». يمتد الشارع الأشهر لأكثر من خمسة كيلومترات، وتصطف على جانبيه مبان أثرية عديدة كمجلس المدينة، ومتحف الفنون الجميلة، ومتحف الفنون التطبيقية، وبورصة فيينا.
«إنها إرادتي».
بهذه الكلمات أمر الإمبراطور فرانز جوزيف في عام 1857 ببناء هذه الضاحية وسرعان ما هرع النبلاء لبناء قصور باهية على امتداد هذا الشارع العريض. فرصة أخيرة يمتع فيها الزائر ناظريه بمشهد واجهات البيوت العتيقة، والتي استوحت تصاميمها المعمارية من حقب متعددة فيما عرف بعد زمن بفن عمارة الطريق الدائري، أو الرينغ شتراسه. يستزيد الزائر، على الأقدام أو على متن «ترام فيينا» الدائري، والذي ينطلق من شويدينبلاتز، من عبق المدينة المستلقية على ضفاف الدانوب، وهو يستمع إلى شرح مفصل عما يمر أمامه من معالم عبر جولة أخيرة في جادة فيينا الاحتفالية.