تكاد أحدث ساعات Les Cabinotiers المتفردة من فاشرون كونستانتين تنافس بنغمها الآسر المؤلفات الموسيقية التي ألهمت ابتكارها.
إذ حل منتصف الصباح في يوم حار جدًا في سنغافورة، سمح كريستيان سيلموني، مدير قسم التصميم الفني والتراث في دار فاشرون كونستانتين، لنفسه بخلع سترته لكنه أبقى على رابطة عنقه. وعلى الرغم من الحر واضطرابات ما بعد السفر، إلا أن سيلموني، الرجل الستيني الذي أمضى أكثر من 30 عامًا في دار الساعات السويسرية العريقة، كان يبذل قصارى جهده لعرض ملاحظات لا مغالاة فيها حول المجموعة الأحدث التي أطلقها محترف Les Cabinotiers من فاشرون كونستانتين لابتكار الساعات بحسب الطلب. حملت المجموعة اسم La Musique du Temps (موسيقا الزمن)، لكن سيلموني حرص على التأكيد أنها ليست مجموعة.
«تتربع ساعات هذا المحترف على عرش الهرم. ولو أننا كنا من صناع السيارات، لكانت هذه الابتكارات نسختنا من فريق الفورمولا 1 .»
يقول مدير قسم التصميم الفني والتراث: «إنها حقا لا تُعد مجموعة. فمحترف Les Cabinotiers يختص، على ما يشير إليه تعريفه، بابتكار ساعات متفردة. وإذا ما نظرنا إلى إبداعاتنا على مقياس هرمي، فإن ساعات هذا المحترف ستتربع على عرش هذا الهرم، مجسدة إبداع الذروة لدى فاشرون من حيث الإتقان في صناعة الساعات والحرف الزخرفية. لا يمكنني مقارنتها بالمجموعة الرئيسة. ولو أننا كنا من صناع السيارات، لكانت هذه الابتكارات نسختنا من فريق الفورمولا 1.»
يصور الحفر اليدوي على علبة ساعة La Musique du Temps Symphonia Grande Sonnerie جزءا من النوتات الموسيقية في السمفونية «الرعوية» السادسة لبيتهوفن.
على قياس الذائقة
تأسس محترف Les Cabinotiers في عام 2006. ويوضح سيلموني أن الغاية كانت «إعادة إحياء الرابط بساعات متفردة ابتُكرت في الماضي بحسب الطلب.» استمر هذا التقليد، على ما يقول، من القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين، وتوقف بعيد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
في البدء، كانت الخدمة تُعرف باسم Atelier Cabinotiers وتقتصر على ابتكار الساعات تلبية لطلبات الزبائن. فعلى ما هو عليه حال صانع لليخوت الفاخرة يمكنه تعديل مواصفات أي قارب بما يتماشى مع ذائقة الزبون، يمكن أيضًا لفاشرون ابتكار ساعة شخصية تلبي الأهواء على اختلافها. يصف سيلموني المحترف بأنه «مشغل صغير متخصص في تلبية رغبات زبائن الدار»، وفي الوقت نفسه «مختبر نثبت من خلاله إمكاناتنا في عالم صناعة الساعات.»
كان أحد الابتكارات الأولى، الذي سلمه المحترف سنة 2011 إلى زبون لم يُكشف عن اسمه، ساعة فلاديمير Vladimir ذات التعقيدات الفلكية. صيغت الساعة من 891 جزءًا واشتملت على 17 تعقيدًا. وعلى الرغم من أنها شكلت إحدى الساعات الأكثر تعقيدًا التي جرى تطويرها يومًا، إلا أنها لم تكن سوى بشرى تُنبئ بما سيعقبها. ففي عام 2015، كشفت الدار عن إنجاز آخر توافق على نحو ملائم مع ذكرى مرور 260 عامًا على تأسيسها، وتمثل بتسليم ساعة الجيب Reference 57260 التي تبقى نوعًا ما الساعة الميكانيكية الأكثر تعقيدًا في تاريخ هذه الصناعة، إذ تزهو بخمسة وسبعين تعقيدًا.
حرفي يجمع يدويا أجزاء المعيار الحركي 2260 في ساعة Openworked Tourbillon High-Jewelry
التي تشكل واحدًا من ابتكارات Les Cabinotiers ولكن من خارج ساعات La Musique du Temps.
يذكر سيلموني أن مهمة ابتكار ساعة الجيب هذه أوكلت إلى المحترف قبل تفويضه بتطوير ساعة فلاديمير، ويضيف قائلاً: «جسدت هذه الساعة أول طلب مهم لبناء ساعة متفردة في محترف Les Cabinotiers، وقد استغرق إنجازها ثمانية أعوام.»
نبض لا ثاني له
بعد أن تسلم لويس فيرلا زمام الإدارة عام 2017 بوصفه الرئيس التنفيذي لفاشرون كونستانتين، تطور المحترف. فبدلاً من انتظار طلبات الزبائن، قررت الدار إنتاج سلسلة من الساعات الفريدة لعرضها عليهم، وأطلقت هذا المفهوم أواخر العام نفسه في كيوتو. وفي عام 2018، كشفت فاشرون كونستانتين في باريس عن مجموعة ساعات Les Cabinotiers Mécaniques Sauvages التي تستلهم عالم الحيوان.
أما ساعات Les Cabinotiers La Musique du Temps التي جرى عرضها في سنغافورة، فتشكل مجموعة من 40 ساعة رنانة لا مثيل لها، أو قد يصح وصفها بالسمفونية. ما كانت هذه الابتكارات لتزهو بطابع تقليدي أوضح حتى لو تبختر أولئك الذين يتزينون بها في أرجاء سالزبورغ وقد أحاطوا أعناقهم بتلك الياقات ذات الطيات فيما الساعات تطلق رنينها الذي يستنسخ العمل الأوبرالي الشهير الناي السحري. يصعب أن يصدق الناظر ألا ثاني لأي من هذه الابتكارات، من ساعة Minute Repeater Ultra-Thin التي تبدو الخطوط التصميمية الجانبية لعلبتها غير معقدة على نحو مضلل، إلى ساعة «Symphonia Grande Sonnerie «The Sixth Symphony المهيبة بتعقيدها (تتميز هذه الساعة بوظيفة الرنين الكبرى ووظيفة الرنين الصغرى، وتزهو بعلبة نُقش عليها مقتطف من نوتات السمفونية السادسة لبيتهوفن). بُذلت جهود جمة لبناء نموذج واحد فقط من كل ساعة. وعلى ما يليق بندرتها، تبدأ أسعارها من نحو 150 ألف دولار، ومن ثم «لا حدود لما يمكن تحقيقه» على ما يقول سيلموني.
في ساعة Minute Repeater Calendar، لا تزيد سماكة آلية الحركة على 5.70 ملليمتر،
وتشتمل على 438 جزءًا.
آفاق الطموح
لا شك في أن فاشرون كونستانتين تمتلك خبرة مشهودًا لها بها في مجال تطوير الساعات التي ينبعث رنينها كل ساعة، أو عند الطلب. ولكن الدار عملت على الارتقاء بهذه المهارات، فأثارت كثيرًا من التساؤلات حول طموحها بتطوير تقنية الساعات المجهزة بوظيفة الرنين. في السنوات الأخيرة، تحولت قوة الرنين في الساعات إلى ساحة جديدة للتنافس، ونجحت أوديمار بيغيه وأوليس ناردين في تعزيز حجم الصوت في ساعاتهما الرنانة.
هل تعبر فاشرون عن نيتها في الانضمام إلى هذه المعركة؟ يقول سيلموني: «قد نجيب بنعم إذا ما كنا نسعى إلى التنافس مع أوديمار بيغيه مثلاً في مجال تقنية الرنين لديها Supersonnerie. لكنني أتمنى التوفيق لكل من يحاول ذلك. الجواب إذًا هو لا، لأن غايتنا تتمثل بتطوير صوت لوظيفة الرنين جهوري بما يكفي لسماعه بوضوح واتساق بالغين في بيئة يسودها الضجيج.»
فضلاً عن ذلك، يوضح سيلموني أن طموح فاشرون يتمثل على وجه الخصوص بتطوير ساعات رنانة فائقة الرقة أفضل من سابقاتها، والجمع عندئذ بين اثنين من مجالات صناعة الساعات الفاخرة. وفي هذا يقول: «كلما كانت آلية الحركة أكثر رقة، صعب الإتيان بصوت رنين واضح وجهوري. يُعزى السبب في ذلك إلى كون آلية الحركة الأكثر رقة تقتضي تثبيت الأجراس في مواقع أقرب بعضها إلى بعضها، الأمر الذي يُدخل رنينها في نطاق الجواب.»
ساعة الجيب Reference 57260 التي صنعتها فاشرون كونستانتين عام 2015،
والتي تعد الساعة الأكثر تعقيدًا إلى يومنا هذا، تزدان بسبعة وخمسين تعقيدًا.
يعرض سيلموني لتبيان الاختلاف ساعتين: إحداهما من طراز ساعات فاشرون فائقة الرقة المجهزة بوظيفة معيد الدقائق والتي تستمد طاقتها من المعيار الحركي 1731 (الذي لا تتعدى سماكته 3.9 ملليمتر). أما الساعة الأخرى، فمزودة بالمعيار الحركي 2755 QP الأكبر حجمًا (الذي يثريه تعقيد التقويم الدائم وتبلغ سماكته 7.9 ملليمتر). لا أمتلك أذن موزارت الموسيقية، ولكن في الغرفة التي يعلو فيها صخب الأحاديث، بدا لي رنين الساعة الثانية أكثر عمقًا ووضوحًا وربما أعلى. يقول سيلموني: «إن ضبط وظيفة معيد الدقائق تصبح أشد صعوبة عندما تكون آلية الحركة رقيقة بهذا القدر. أعتقد أننا قادرون على تحسين هذا الوضع.»
سيجري العمل على مسار التطوير هذا في مصنع الدار في سويسرا، لكن إنجازاتها في المجال السمعي ستُسجل في المملكة المتحدة. تحرص الشركة اليوم على تسجيل نغم كل معيد دقائق تبتكره في الاستوديو 2 ضمن استوديوهات آبي رود في لندن، هناك حيث تتردد إلى يومنا هذا أصداء أغاني البيتلز وبينك فلويد.
يقول سيلموني: «إننا نواصل تسجيل نغم كل معيد دقائق نبتكره منذ عام 1992. فعندما يُؤتى بالساعات بهدف الصيانة، علينا أن نحرص أن يظل رنينها على حاله لدى تسليمها مجدًدا إلى أصحابها.»
ساعات للنخبة أينما حلوا
لقيت ساعات Les Cabinotiers، خصوصًا تلك التي تزدان بتعقيدات كبرى مثل معيد الدقائق، استحسانًا واسع النطاق في أوساط المشترين الآسيويين، وذلك بسبب ارتفاع القدرة الشرائية في الصين وفي بلدان أخرى. وليست مصادفة بالطبع أن تنظم الدار عرضين من العروض المسبقة الثلاثة المخصصة للكشف عن المجموعة في مدينتين آسيويتين. لكن إذا ما أخذنا الظروف الراهنة في الحسبان، فإنه قد يكون من الصعب أن تجد هذه الساعات منتهاها في الجانب الآخر من العالم. يقول لوكا سولكا، المحلل في مجال المنتجات الفاخرة لدى شركة سانفورد س. بيرنشتاين، الذي يتخذ من جنيف مقرًا له، إنه يتوقع أن تؤدي أزمة فيروس كورونا المستجد إلى تراجع في معدل الإنفاق في الصين بنسبة %50 في الربع الأول من عام 2020، مقارنة بما كان عليه الحال في الفترة نفسها من العام الماضي، وبنسبة %30 في الربع الثاني، قبل أن يعاود المعدل الارتفاع بنسبة %10 في النصف الثاني من عام 2020. تنطبق هذه التوقعات في مختلف الأسواق حيث ينفق المواطنون الصينيون أموالهم بمجملها، بما في ذلك الصين القارية، وهونغ كونغ، وماكاو، واليابان، وأوروبا، أي في مختلف أنحاء العالم. تستند هذه التوقعات أيضًا إلى فرضية اندثار الجائحة بسرعة.
«تحرص الشركة اليوم على تسجيل نغم كل معيد دقائق تبتكره في استوديو 2 ضمن استوديوهات آبي رود في لندن»
على الرغم من الدلائل التي توحي بأن فاشرون تعتمد إلى حد بالغ على الصين (حيث يتوزع 39 متجرًا من متاجرها التسعة والثمانين)، إلا أن سيلموني يشدد على أن ساعات Les Cabinotiers لا تستهدف الصينيين دون غيرهم، وأن الزبائن الراغبين فيها يتوزعون في شتى أنحاء العالم. ويضيف أنه يمكن لأي شخص شراء ساعة من ساعات Les Cabinotiers أو تفويض هذا المحترف لابتكار ساعة بحسب الطلب إذ تستمر الدار في توفير هذه الخدمة. أما الشرط الوحيد الواجب استيفاؤه، فيتمثل بمقدرة الزبون على دفع ثمن الساعة.
في الحديث عن الساعات التي يوكل إلى المحترف مهمة ابتكارها بحسب الطلب، يقول سيلموني: «إن المسار غير معقد ويجري على نحو تلقائي. نلتقي والزبون ونعمل معًا على تطوير الساعة التي ينشدها. في ما نسبته %80 من الحالات، لا يعرف الزبائن تحديدًا ما الذي يريدونه. إنهم ينشدون ساعة متفردة، معقدة وخاصة، لكنهم لا يمتلكون تصورًا ملموسًا عما يريدونه. إننا نخبرهم ألّا حدود للابتكار، وبوسعنا أن نثبت ذلك لأننا ابتكرنا الساعة ذات الرقم المرجعي 57260.»
الساعات النوادر
لا تكشف الدار عن عدد ما تبتكره من هذه الساعات المتفردة، فتؤجج الغموض الذي يكتنفها. لكن يرجح أن عدد ساعات Les Cabinotiers المتداولة حاليًا هو 100 ساعة.
يقول روبرت، جامع الساعات في الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية الذي يدير شركة للاستراتيجيات في مجال الأنشطة الخيرية: «ابتعت ساعة Les Cabinotiers التي أمتلكها من جامع ساعات آسيوي. عرضها عليّ مباشرة لأننا كنا قد التقينا سابقًا، وأدرك أنني من جامعي ساعات فاشرون كونستانتين الجادين. إنها ساعة من عام 2018 تستوطن علبة من الذهب الوردي ويميزها ميناء يزهو بطلاء المينا المشغول بتقنية الإشعال في الفرن Grand Feu. تجسد هذه الساعة نسخة فريدة من طراز Historiques Chronomètre Royal 1907 ابتُكرت بحسب الطلب. إنها النسخة الوحيدة التي يزهو ميناؤها بأرقام باللون الأزرق النيلي ونقش كتابي. كما أن شعار فاشرون الشهير نُقش فيها على الميناء أسفل مؤشر الساعة السادسة، فيما لم يكن هذا هو الحال في الطراز الأصلي المخصص للإنتاج على نطاق واسع.»
غالبًا ما تجري صفقات التبادل من هذا النوع خلف الأبواب الموصدة. تصف ريبيكا روس، المتخصصة في الساعات لدى كريستيز، ساعات Les Cabinotiers بالنوادر في المزادات. بل إن ساعة واحدة منها وجدت طريقها إلى المزاد في الماضي القريب، وتمثلت آنذاك بنموذج تثريه وظيفتا معيد الدقائق والتقويم الدائم، ويميزه وجهان للعلبة المشغولة من البلاتين. حققت الساعة مبلغًا مقداره 435 ألف دولار عند بيعها في مزاد الساعات المهمة الذي نظمته دار كريستيز في دبي في شهر مارس آذار من عام 2019 .
إذ تستلهم ساعة Symphonia Grande Sonnerie فن الموسيقا، تتزين بمؤشر في هيئة مفتاح موسيقي
يتعقب مخزون احتياطي الطاقة المخصص لوظيفة الرنين والذي يساوي 20 ساعة.
يشير أليكس غوتبي، رئيس قسم الساعات لمنطقة أوروبا القارية والشرق الأوسط في دار فيليبس، والموظف السابق في دار فاشرون كونستانتين، إلى أن ندرة هذه الساعات في السوق المفتوحة تُعزى إلى سببين. يقول غوتبي موضحًا: «شكلت ساعات Les Cabinotiersفي بداياتها ابتكارات مصممة بحسب الطلب، لذا فإن بيعها ليس سهلاً بالضرورة. كما أن مالك الساعة قد لا يرغب في التخلي عنها، إذ يجمعه بها رابط شخصي.» ويعزو غوتبي التباطؤ في بناء الساعات التي لا تُبتكر بحسب الطلب إلى واقع أن الدار لم تشرع في تصنيعها إلا منذ بضعة أعوام. وفي هذا يقول: «لا تُعد فاشرون واحدة من العلامات التي يبتاع الزبون ساعة منها ثم يبيعها لتحقيق ربح ما. فزبائن الدار ليسوا من هذا الطراز، وفاشرون نفسها تتمايز عن مثل هذه العلامات. إن معظم أولئك الذين يبتاعون هذه الساعات يقتنونها بدافع من شغفهم بآلياتها الميكانيكية وخطوطها التصميمية. إنهم يرغبون في الاحتفاظ بها.»
إذ يوكل الزبون إلى المحترف مهمة ابتكار ساعة مصممة بحسب الطلب، يستثمر حقًا مقدارا كبيرًا من وقته. فبناء ساعة يبلغ سعرها مئات الآلاف من الدولارات أو أكثر قد يستغرق سنوات عدة ينبغي التحلي خلالها بالصبر، على ما يوضح روديغر ألبيرز، رئيس متجر Wempe Jewelers، أحد أهم متاجر الجواهر في مدينة نيويورك. يقول ألبيرز: «إن أولئك الذين يستعلمون في العادة ساعات Les Cabinotiers يكونون زبائن حاليين للدار. إنهم يشكلون ناديًا صغيرًا حصريًا جدًا، وتفتنهم مختلف أوجه البراعة الفنية المميزة لهذه الساعات.»
يقول سيلموني: «ينطوي ابتكار ساعات Les Cabinotiers على مسؤولية كبرى. فهذه الابتكارات تدمج بين مختلف المهارات المميزة للدار. صحيح أن قيمة هذه الساعات مرتفعة للغاية، لكننا نحرص على ألا نجعلها مبهرجة، بل على أن تجسد المزايا كلها التي يتوقعها المرء من فاشرون كونستانتين.»