لا يسعك القول إنك غصت حقيقة تحت سطح الماء إن لم تستكشف أعماق المحيط على متن غواصة.
ما أروع الوجود للمرة الأولى على متن غوّاصة، حيث لا تفصلك عن أسماك الحيد المرجاني والمياه الصافية سوى ألواح من الأكريليك بسماكة بضع بوصات. توفّر غواصة Triton 3300/3 التي تتسع لثلاثة أشخاص مدى رؤية بزاوية 360 درجة، ما يجعلك تجد صعوبة في تمييز الحد الفاصل بين الكرة الشفافة وبداية المحيط. تبدو الغواصة فسيحة على نحو مفاجئ، كما أنها مجهزة بمقاعد وثيرة والهواء فيها منعش، فيما لا شيء يعيق الرؤية الأمامية، أو النظر عبر الأرضية أو السقف حتى من مقعد الربّان في الجزء الخلفي منها.
كنت قبل دقائق فقط على متن سفينة U Boat Navigator المخصصة للغوص، والتي كانت تتهادى في البحر قبالة مالطا. كانت السفينة تحمل على متن مقدمة سطحها الرئيس الغواصة ثلاثية المقعد وغواصة أخرى بمقعد واحد من طراز Triton 3300/1 من ترايتون. يقول توم هوتون، مدير العمليات في شركة كوكسون للمغامرات Cookson Adventures: "إن الغواصة ليست لعبة. إنها وسيلة لاستكشاف بيئة غريبة". تشكل غواصة ترايتون، القادرة على الغوص حتى عمق 3,300 قدم خيارًا شائعًا في أوساط الباحثين وصنّاع الأفلام الوثائقية، ومنهم طاقما العمل اللذان أعدا الفيلمين الوثائقيين Blue Planet II وGreat Barrier Reef لشبكة بي بي سي مع السير ديفيد أتينبورو.
فيما كنا نغوص باتجاه الهيكل الغارق لقارب دوريات ألماني يرجع إلى الحرب العالمية الثانية، استعدنا عبارة "بيئة غريبة" التي استخدمها هوتون. كان شعورنا لا يوصف، ويجمع بين الإثارة والسكينة. على عمق 82 قدمًا، حيث ترتد أشعة الشمس عن قاع البحر، يحتشد حطام القارب بالأسماك والغواصين. يسود الهدوء التام على نحو مفاجئ داخل الغواصة، فلا يُسمع سوى الهدير الميكانيكي الخافت فيما يدور الربان ديميرتي توماشوف تارة بنا من حول القارب، وطورًا يحوم فوق قاع المحيط. فوق السطح الرئيس، تبدو الغواصة الكروية ترايتون، التي تزن تقريبًا 8,165 كيلوغرامًا، ضخمة وغير عملية. لكنها تحت الماء تتناغم مع بيئتها الطبيعية، فتنزلق بدقة فيما يوجّه توماشوف مسارها من وحدة تحكم مركزية. لا أختبر هنا رُهاب الأماكن المغلقة الذي أتخوّف منه. بعد انقضاء 45 دقيقة، نعود أدراجنا من رحلة الأحلام صعودًا إلى السطح.
في أعقاب مثل هذه التجربة التي يصعب نسيانها، لا يعود المرء يستغرب الزيادة البالغة في الطلب على الغواصات الخاصة. فمالكو اليخوت باتوا يطلبون بناء قوارب تتسع لتخزين غواصة صغيرة الحجم، وأحيانًا اثنتين. بل إن الغواصات باتت تشكل ميزة على متن العديد من السفن المخصصة للرحلات البحرية السياحية. لكن الغواصات آلات باهظة الثمن. يبلغ سعر غواصة من طراز Triton 3300/3 نحو 3.8 مليون دولار، فيما سعر غواصة Super Yacht Sub 3 من الشركة المنافسة U-Boat Worx (التي اختبرتها قبل أسبوعين) يقارب 2.9 مليون دولار. الجدير بالذكر أن العديد من المالكين لا يقتنون الغواصات بغرض التسلية فحسب، ولكن بوصفها مركبات أبحاث للغوص بحثًا عن الآثار ولاستكشاف أجناس بحرية جديدة.
أمضت باربرا فان بيبير، وهي واحدة من قلة من النساء في العالم اللواتي يقدن الغواصات، ساعات تحت سطح الماء برفقة علماء. بالقرب من منشأة U-BOAT Worx للتدرب على قيادة الغواصات في كوراكاو، اصطحبتني فان بيبير في رحلة غوص استمرت 90 دقيقة حتى عمق 500 قدم على متن غواصة من طراز Super Yacht Sub 3. وعلى ما كان عليه الحال في مالطا، كانت الرؤية عبر مياه الكاريبي الصافية مثالية، بالرغم من أن المقصورة التي تحاكي الطائرات المقاتلة كانت تعيق الرؤية من الجزء الخلفي من الغواصة. على عمق 500 قدم، كنا نلامس تقريبًا نصف المدى الذي تتيحه الغواصة.
كانت أشعة الشمس لا تزال مرئية على عمق 130 قدمًا. وعند بلوغنا عمق 230 قدمًا، مررنا بحيود ناجمة عن الحمم البركانية وتحتشد بألوان المرجان الزاهية. ظهرت لبرهة سمكة باراكودا قبل أن تختفي في العتمة ساعية في إثر قطيع ضخم من الأسماك. قالت فان بيبير: "إنها أسرع من أن نلحق بها"، مشيرة إلى أن السرعة القصوى للغواصة تساوي ثلاث عقد. كانت تقود الغواصة باستخدام أذرع التحكم، هذه الميزة التي تغيب في المقابل عن غواصة ترايتون، والتي تسمح لها بأن توكل زمام القيادة إلى المسافرين معها.
يبدو قعر المحيط على عمق 574 قدمًا أشبه بصحراء جرداء ساكنة ومخيفة. عبر هذا الامتداد المائي الشاسع، وفيما كانت مصابيحنا مصدر الإنارة الوحيد الذي نسترشد به، ظللنا على اتصال عبر الراديو مع القارب على السطح. كانت خبرة فان بيبير الواسعة كفيلة بإقصاء أي مخاوف، شأنها في ذلك شأن مفتاح Deadman، نظام الأمان الذي ينشّط آليًا خاصية الصعود التلقائي إلى السطح في حال لم تصدر الإشارة اللازمة من ربان الغواصة مرة كل 10 دقائق.
كان اليوم الذي أمضيته في الغواصة Triton 3300/3 من U Boat Navigator جزءًا من رحلة كوكسون المستأجرة على متن اليخت Lady in Blue. لكن الشركة تستطيع ترتيب رحلات مستأجرة تُنسق بحسب الطلب على متن يخوت فارهة أخرى في أنحاء مختلفة من العالم، وكلها تتيح ركوب الغواصات.
مقابل 41 ألف دولار، تنسق أيضًا سفينة U Boat Navigator في مالطا رحلات يومية على متن غواصة إلى يخوت مستأجرة أخرى. لكن ثمة طرائق أخرى لاختبار الغواصات بعيدًا عن استخدامها وسيلة نقل إلى قارب ضخم جدًا. فشركة U-Boat Worx تقدّم برامج دراسية عدة في منشأة تدريب قادة الغواصات. تتفاوت هذه البرامج بين برنامج ليوم واحد بسعر 4,700 دولار يشمل صفًا نظريًا وثلاث رحلات غوص، وبرنامج Chief Pilot Course الذي يستمر 16 يومًا بسعر يقارب 35 ألف دولار.