فيما تظل صناعة الساعات مجالاً إبداعيًا قائمًا بحد ذاته، يكمن اليوم المقياس الأسمى لإبداع الذروة في هذا العالم في التفسير المعاصر للحرف الفنية التقليدية. 

فبعيدًا عن القيود التقنية الصارمة التي تفرضها صناعة الساعات التقليدية، تتجلى محترفات الأعمال الفنية Métiers d’Art فضاءً مفتوحًا ينعتق فيه الإبداع من كل قيد. 

في هذه المحترفات التي ترتكز إلى أساليب فنية متوارثة، تتحوّل الموانئ إلى لوحات تنبض بالحيوية فيما تكرّس تلاقي فنون مثل رسم المنمنمات، والتطعيم بالخشب، والطلاء بالمينا، والنحت، مع الهندسة الميكانيكية الدقيقة.

رسم المنمنمات 
لويس موانيه
Around the World in 8 Days – Abu Dhabi

في ما يشبه إبداع نسخة حديثة من المغامرات الملحمية التي تصوّرها جول فيرن، طرحت دار لويس موانيه سلسلة من ثماني ساعات حملت اسم Around The World in Eight Days (حول العالم في ثمانية أيام)، مستلهمة سحر المدن الكبرى في العالم، من باريس ونيويورك وسان فرانسيسكو، إلى طوكيو وبانكوك وكوالا لامبور وسنغافورة، مرورًا بأبوظبي. 

فبإيحاء من قصص آلاف البشر في كل مدينة، تصوّر جان-ماري شالر، مالك الدار ومديرها الإبداعي، موانئ ساعاته فسيفساء تحتفي بالفن والثقافة والعمارة. 

وقد أوكل شالر مهمة إنجاز الموانئ إلى خبرات محترف GVA Cadrans الذي يحتضن مواهب نادرة في مجال الأعمال الفنية، من فن رسم المنمنمات الدقيق إلى صياغة موانئ مركّبة بأسلوب الأحاجي. 

باستخدام رسم المنمنمات على قاعدة من الكريستال الصخري أعاد الحرفيون تشكيل القباب البيضاء المهيبة للمسجد.

Louis Moinet

باستخدام رسم المنمنمات على قاعدة من الكريستال الصخري أعاد الحرفيون تشكيل القباب البيضاء المهيبة للمسجد.

تبرز وسط هذه الروائع ساعة Around the World in 8 Days – Abu Dhabi التي يصوّر ميناؤها جامع الشيخ زايد الكبير في العاصمة الإماراتية، كاشفًا عن واحد من أرقى التعبيرات الفنية في عالم الساعات

لتشكيل هذا الميناء بما يبرز جماليات عمارة المسجد وطابعه الروحاني، استعان حرفيو GVA Cadrans بمهاراتهم الدقيقة في فن رسم المنمنمات، مستخدمين قاعدة شفافة من الكريستال الصخري، وهي مادة نقية تمنح المشهد عمقًا بصريًا أخّاذًا. بأدق ضربات الفرشاة، أعاد الحرفيون تشكيل القباب البيضاء المهيبة والأعمدة الرخامية المذهبة، فانبثق مشهد ينبض بالحيوية على خلفية زرقاء ناصعة، يتهادى فيها ضياء الهلال فوق المسجد، مضفيًا لمسة من السحر المستوحى من عالم ألف ليلة وليلة. 

يُعد فن رسم المنمنمات المستخدم في هذه الساعة من الفنون التقليدية المعقدة، وقد تطلب إنجاز الميناء درجة عالية من الإتقان لصياغة التفاصيل المجهرية، من أنماط الزخرفة المعمارية إلى التلاعب الدقيق بالضوء والظل. 

تستوطن الساعة المجهّزة بآلية توربيون محلق علبة من الذهب الوردي بقطر 40.3 ملليمتر، وينبض قلبها بآلية حركة يدوية التعبئة توفر احتياطيًا للطاقة يصل إلى96  ساعة. 

تطلب إنجاز الميناء درجة عالية من الإتقان لصياغة التفاصيل المجهرية، من أنماط الزخرفة المعمارية إلى التلاعب الدقيق بالضوء والظل.

Louis Moinet

تطلب إنجاز الميناء درجة عالية من الإتقان لصياغة التفاصيل المجهرية، من أنماط الزخرفة المعمارية إلى التلاعب الدقيق بالضوء والظل.

التطعيم بالخشب 
باتيك فيليب 
Portrait of a White Egret

لطالما شكّلت الطيور مصدر إلهام رفيع في عالم الفنون. وفي مجموعة باتيك فيليب لعام 2024، حظي طائر البلشون الأبيض بمكانة خاصة، إذ جسّدت الدار رشاقته الأخاذة في أربع ساعات مختلفة باستخدام تقنيات زخرفية متقدمة. وتبرز بين هذه الإبداعات ساعة الجيب المتفردة Reference 995/143G-001 "Portrait of a White Egret"، التي تحتفي بفن التطعيم بالخشب. 

يُعد التطعيم بالخشب من أقدم تقنيات الزخرفة، إذ إنه استخدم تقليديًا لتزيين الأثاث والصناديق الخشبية والأعمال الحرفية الراقية. 

على أن هذا الفن لم يجد موطئ قدم له في عالم الساعات إلا حديثًا. على مدى سنوات من الممارسة، يطوّر الحرفيون في هذا المجال الفنّي حسًّا بصريًا يتيح لهم توظيف عروق الخشب وألوانه الطبيعية لتكوين تصاميم غاية في الدقة. فهم يدرسون أنماط الخشب المتنوعة، ويحددون أساليب قصّ أجزاء رقيقة من القشرة الخشبية لتندمج مع التصميم النهائي في تناسق متقن.

لتشكيل الطائر، قام الحرفي بقص 53 قشرة خشبية دقيقة وتجميعها، وتطعيم 400 موضع منفصل، مستخدمًا 18 نوعًا مختلفًا من الخشب.

Patek Philippe

لتشكيل الطائر، قام الحرفي بقص 53 قشرة خشبية دقيقة وتجميعها، وتطعيم 400 موضع منفصل، مستخدمًا 18 نوعًا مختلفًا من الخشب.

عند تنفيذ تصميم معقّد مثل ذاك الذي يزهو به ميناء ساعة باتيك فيليب، يبدأ الحرفيون بتحديد خطوط دقيقة تُستخدم دليلًا لقصّ أدق ملامح الطائر وتفاصيلها والخلفية المحيطة به. 

وانطلاقًا من رؤيتهم الإبداعية، ينتقون أخشابًا طبيعية بألوانها الأصلية، ومن ثم يعكفون على قصها بدقة، وتجميعها، ولصقها، لإبراز التباينات الدقيقة في التصميم بموازاة إظهار طابعه الانسيابي النابض بالحيوية. 

هذا ما يتجلى عبر غطاء علبة الساعة الخلفي، حيث أبدع الحرفي في قصّ 53 قشرة خشبية دقيقة وتجميعها، وتطعيم 400 موضع منفصل، مستخدمًا 18 نوعًا مختلفًا من الخشب، لكل منها لون متفرد وملمس خاص وعروق طبيعية متباينة. 

أما الميناء الذهبي، فزُيّن يدويًا بزخارف على نسق شعاع الشمس لاستحضار مظهر ريش الطائر، ثم صُقل بطلاء المينا الأزرق الشفاف باستخدام تقنية Flinqué التقليدية التي أضفت على المشهد بريقًا عميقًا. 

تحتضن الساعة آلية الحركة يدوية التعبئة Caliber 17’’’ LEP PS المعززة بعدّاد للثواني الصغيرة. 

زُيّن الميناء يدويًا بزخارف على نسق شعاع الشمس لاستحضار مظهر ريش الطائر، ثم صُقل بطلاء المينا الأزرق الشفاف باستخدام تقنية Flinqué.

Patek Philippe © S.Duouchet

زُيّن الميناء يدويًا بزخارف على نسق شعاع الشمس لاستحضار مظهر ريش الطائر، ثم صُقل بطلاء المينا الأزرق الشفاف باستخدام تقنية Flinqué.

طلاء المينا المجتزع 
بياجيه
Altiplano Skeleton High Jewellery

عُرفت بياجيه على مر السنين بقدرتها المتفردة على دمج المهارة الهندسية بالحرف الفنية الراقية. وإذا كانت محترفات التميّز Ateliers de l’Extraordinaire التابعة لدار بياجيه تنجح باستمرار في الدفع بحدود الممكن على صعيد ترصيع البنى الهيكلية أو على مستوى الحرف الفنية، فإنها في ساعة Altiplano Skeleton High Jewellery تكرّس تفوقها في هذا المجال عن طريق الجمع بين ثلاث مهارات فنية معقدة هي فن الهيكلة الدقيقة لآلية الحركة، والترصيع بالأحجار الكريمة، وفن الطلاء بالمينا المجتزع Grand Feu cloisonné. 

لتحقيق التأثير المبهر، يقوم الحرفيون بملء المساحات بطلاء المينا وصقلها باستخدام تقنية الإشعال في الفرن.

Piaget

لتحقيق التأثير المبهر، يقوم الحرفيون بملء المساحات بطلاء المينا وصقلها باستخدام تقنية الإشعال في الفرن.

لإنجاز هذه المأثرة، عهدت بياجيه بالتصميم الهيكلي المرصّع بالألماس والياقوت الأزرق إلى أنيتا بورشه، الفنانة المتخصّصة بالطلاء بالمينا والتي تتعاون الدار معها منذ عام 2006. وإذ وظّفت بورشه مهاراتها الحرفية الدقيقة في هذا المشروع، مزجت ببراعة بين التدرجات اللونية الزرقاء والخضراء والبنفسجية، لرسم لوحة فنية تحتضن الجزء الأمامي من الميناء، وللمرة الأولى الجزء الخلفي منه، فيما تتبع حركته وصولاً إلى حافة القرص، ما أضفى على التصميم عمقًا بصريًا وتباينًا غرافيكيًا مبهرًا.

لتحقيق التأثير المبهر لفن الطلاء بالمينا المجتزع، يقوم الحرفيون بتشكيل حواجز دقيقة من الذهب ترسم الخطوط العريضة للتصميم، قبل أن يجري ملء المساحات بطلاء المينا وصقلها باستخدام تقنية الإشعال في الفرن  Grand Feuالتي تتطلب درجات حرارة عالية للغاية لتثبيت اللون ومنحه بريقًا لا يتغير بمرور الوقت. 

وفي رائعة بياجيه، يستوطن هذا الإنجاز علبة من الذهب الأبيض بقطر 40 ملليمترًا، لا يزيد سمكها على سبعة ملليمترات، في إشارة تؤكد على تفوق بياجيه في فن صناعة الأجزاء بالغة الرقة، هذا الفن الذي شكّل سمة راسخة في مهمتها الإبداعية منذ عام 1874. أما آلية الحركة 1200D1، التي تُعدّ نسخة محسّنة من المعيار الحركي الأوتوماتيكي 1200D، فصيغت من الذهب وازدانت زواياها ومنحنياتها بترصيع متقن. 

تجمع الساعة التي تستوطن علبة من الذهب الأبيض بين فن الهيكلة الدقيقة لآلية الحركة، والترصيع بالأحجار الكريمة، وفن الطلاء بالمينا المجتزع.

Piaget

تجمع الساعة التي تستوطن علبة من الذهب الأبيض بين فن الهيكلة الدقيقة لآلية الحركة، والترصيع بالأحجار الكريمة، وفن الطلاء بالمينا المجتزع.

النحت اليدوي
هيرميس 
Slim d’Hermès Flagship

تُعد هيرميس واحدة من الدور القليلة التي تنأى باستمرار عن النهج التقليدي في تطبيق الحرف اليدوية مثل الطلاء بالمينا، ورسم المنمنمات، والنقش والنحت، لتجعل من كل ميناء ساعة لوحة تحتضن تصاميم فنية متنوعة. 

هذا ما تشهد عليه خصوصًا إصداراتها المحدودة التي تستنسخ في صيغة مصغّرة أوشحتها الحريرية الأكثر شهرة والتي انبثق العديد منها في الأصل عن مشاريع تعاون مع فنانين مستقلين.

نُحت هيكل السفينة بدقة متناهية على قاعدة من الذهب، وقد استخدم الحرفيون في تشكيلها أدوات نقش يدوية الصنع.

Hermès © David Marchon

نُحت هيكل السفينة بدقة متناهية على قاعدة من الذهب، وقد استخدم الحرفيون في تشكيلها أدوات نقش يدوية الصنع.

في ساعة Slim d’Hermès Flagship مثلاً، التي تبدو أقرب إلى تجسيد فني متسامٍ عن متجر هيرميس التاريخي في شارع 24 رو دو فوربورغ سانت أونوريه في باريس، يستلهم الميناء وشاحًا حريريًا أبدع تصميمه الفنان ديمتري ريبالتشينكو مصورًا سفينة تتهادى بخفة تحت زخات من الشهب في صورة شاعرية تسافر بين العالم الحقيقي والعالم المتخيّل للفنان.

نفّذت هيرميس هذا المشهد الفني الأخاذ على ميناء صيغ من حجر الأفينتورين لتوفير خلفية عميقة أشبه بسماء ليلية حالكة تتلألأ فيها النجوم: بعد استخدام الفرشاة لاستحداث طبقات متتالية من الطلاء على الرسوم المنمنمة التي تزيّن السطح، وإخضاعها لعملية تجفيف حراري مطوّلة في الفرن، يكشف الميناء عن زخارف برونزية غنية بالتفاصل والفروقات الدقيقة. 

تبدو ساعة هيرميس أقرب إلى تجسيد فني متسامٍ عن متجر الدار التاريخي في شارع 24 رو دو فوربورغ سانت أونوريه في باريس.

Hermès © Anita Schlaefli

تبدو ساعة هيرميس أقرب إلى تجسيد فني متسامٍ عن متجر الدار التاريخي في شارع 24 رو دو فوربورغ سانت أونوريه في باريس.

أما السفينة، فهي منحوتة بدقة متناهية على قاعدة من الذهب الأبيض. وقد استخدم الحرفيون في تشكيلها أدوات نقش يدوية، مثل الإزميل والمشرط الدقيق، لنحت أدق تفاصيل هيكل السفينة، وشراعها المرفرف، وزخارف مقدمتها. وبعد اكتمال عملية النحت، جرى تلوين السفينة يدويًا وتثبيتها على الميناء. بل إن هيرميس أضفت لمسة من المرح والحيوية على التصميم إذ أثرته عند مؤشر الساعة الرابعة بنجمة متحرّكة تتفاعل مع حركة المعصم. 

تجتمع هذه التفاصيل كلها في علبة من الذهب الأصفر بقطر 39.5 ملليمتر، يحيط بها سوار من جلد التمساح الأزرق العميق لتعزيز الطابع البحري المميز لهذه التحفة الفنية التي ينبض قلبها بآلية الحركة ذاتية التعبئة Manufacture Hermès H1950.