صناع السيارات يجسدون مساعي الأبحاث والتطوير المرتكزة إلى متطلبات العامة
في سيارات تصورية شرسة الأداء وصديقة للبيئة ترسم مستقبل قطاع النقل
يبدأ تاريخ السيارات التصورية جديًا من خمسينيات القرن الفائت. لكن المرء يحتاج إلى الرجوع بالزمن إلى أبعد من ذلك لوضع هذا التاريخ في سياقه. نشأت، بخروج الولايات المتحدة الأمريكية من أزمة الكساد الكبير، طبقة وسطى يتمتع أفرادها بما يكفي من الثراء لتحمل كلفة اقتناء سيارات أكبر حجمًا. سرعان ما تحول المظهر الخارجي للسيارة إلى أبرز ميزة يُروج لها بهدف البيع. كان الطابع الجديد للمركبة يعني بيع سيارات جديدة، فتحولت التحديثات المتواترة إلى عنصر ضروري للهياكل المعدنية المتحركة. صحيح أن تصنيع السيارات تباطأ عالميًا إلى حد التوقف في ظل اندلاع الحرب العالمية الثانية، إلا أنه عاد لينشط بشراسة عام 1946. وبحلول عام 1950، كان السباق قد انطلق لاستقطاب زبائن أوفياء للعلامات المصنعة للسيارات.
أبهرت سيارة Ferrari 512S Modulo، التي صممها باولو مارتن لدى بينينفارينا، زوار معرض جنيف للسيارات لعام 1970.
وقد يصح النظر إليها بوصفها السيارة التصورية الأكثر أهمية وتميزًا بحس الابتكار في تلك الحقبة.
حققت آلات الأحلام مستوى جديدًا من النجاح، وأفلحت معارض السيارات الدولية في اجتذاب مئات آلاف الزوار من حول العالم للاطلاع على المركبات الأحدث وإلقاء لمحة على المستقبل. كان الصناع تواقين إلى حد بالغ لاستثارة فضول هؤلاء من خلال سيارات تصورية تستكشف التوجهات الجديدة من حيث الخطوط الجمالية والتقنيات وتؤثر فيها. كان بعض السيارات ثوريًا فيما بعضها الآخر غريبًا إلى الحد الذي يجعل إنتاجها على نطاق واسع غير ممكن. رسخت المفاهيم التصورية الأكثر جرأة حضور بعض الصناع أمثال جنرال موتورز بوصفهم أصحاب رؤى متبصرة، متيحة في الوقت نفسه قياس مستوى الابتكار الذي يمكن للناس القبول به متمثلاً بمركبات يوقفونها حقًا أمام مداخل منازلهم. لكن في حين شكلت السيارات التصورية الأولى في غالب الأحيان مركبات خيالية، متحررة من أي قيود، جرى رسم مخططاتها في الاستوديو، بات تطوير السيارات التصورية اليوم يسترشد بمزيج معقد من البيانات الهندسية، ومجموعات النقاش البؤرية، وأرباح المساهمين، ومختلف القواعد التنظيمية للسلامة والانبعاثات العالمية.
ابتكر مارتشيلو غانديني سيارة Lancia Stratos HF Zero في أثناء عمله لدى بيرتونيه.
منذ بدء حركة الطيران، شكلت كفاءة المزايا الديناميكية، سواء أكانت حقيقية أم ضمنية، مبدأ أعلى لمصممي السيارات من أصحاب الفكر التقدمي في ظل المعرفة بأن الهياكل ذات الخطوط الانسيابية تخدع الريح، وتتيح التوفير في استهلاك الوقود، وتبدو وكأنها تنطلق بسرعة حتى في حالة الثبات. في دورة 1934 – 1933 من معرض World’s Fair في شيكاغو، عرض باكمينستر فولر واسع الاطلاع سيارة ديماكسيون Dymaxion التي يحاكي هيكلها شكل المنطاد، فشكلت مركبته واحدة من أولى التجارب في مجال مزايا الديناميكية الهوائية القصوى في السيارات. استكشفت السيارة «التي يشير اسمها إلى الحيوية، والقوة القصوى، والجذب» إمكانية تطوير مركبة قادرة على أن تتحرك على الأرض وتطير في الجو. وفي حين لم تكن الغاية قط طرح هذه السيارة بوصفها مشروعًا تجاريًا، إلا أنها عبرت عن أفكار فولر الخيالية الطوباوية التي شملت قببًا رقيقة ثلاثية الشكل، وطاقة كهربائية شمسية، فضلاً عن التحرر من وسائل النقل التقليدية.
جسدت سيارة Plymouth XNR من فيرجل أكسنر في عام 1962 التصميم المرتكز إلى الخطوط غير المتماثلة
كان هارلي إيرل، رئيس التصاميم لدى شركة جي إم، الرجل الذي رسمت رؤيته التصميمية مسار نمو الشركة بعد الحرب بوصفها صانع السيارات الرائد في العالم. تُعد سيارته من طراز Buick Y-Job التي تعود إلى عام 1938، والتي خط رسوماتها الأولية جورج سنايدر، أول مفهوم تصوري للتصميم يُقدم في معرض للسيارات ويهدف إلى إبهار العامة بخطوطه الخارجية. حددت تلك السيارة التصورية، ذات الهيكل الطويل والمنخفض، الذي يزهو بوفرة استخدام الكروم، التوجه للعقد المقبل، وكان توجهًا فرض فيه قطاع السيارات الأمريكي هيمنته المطلقة.
تميزت سيارة Pininfarina X من عام 1960 بأربع عجلات رتبت في شكل ألماسي
نجحت بعض السيارات التصورية في أن تحدد كل تفصيل في التوجهات على مستوى تصميم الخطوط الخارجية. فسيارة لوسابر LeSabre التي استلهمتها مثلاً شركة جي إم سنة 1951 من الطائرات الحربية زهت في جزئها الخلفي بزعنفتين سرعان ما أصبحتا ميزة لا غنى عنها في السيارات الأمريكية الفاخرة مثل مركبات كاديلاك. في المقابل، شكلت سيارات أخرى مثل فايبرد Firebird I وفايبرد II وفايبرد III، التي ابتكرتها جي إم في الفترة الممتدة بين عام 1954 وعام 1958، أحلامًا غير عملية وبدت أشبه بمقاتلات حربية بلا أجنحة تدفعها محركات توربينية. وكان يُراد تحديدًا للسيارة فايبرد II أن تكون ذاتية القيادة، «فتعتق السائق من قيد عجلة القيادة» على ما سُمي «طريق المستقبل السريع» بحسب ما جاء في النشرة الدعائية التي أطلقت حولها سنة 1956.
في الفترة الممتدة بين عام 1960 وعام 1970، جرى تصور تصاميم جذرية ربما يفوق عددها ما قدم في أي عقد آخر.
لكن الأمريكيين لم يكونوا مصممي السيارات الوحيدين الذين حاولوا استشراف المستقبل. فالإيطاليون خصوصًا عملوا بجد على تصور ما سيحمله المستقبل، ودمجوا في غالب الأحيان خطوطًا تصميمية غير مسبوقة في طرز متفردة أو محدودة الإصدار لعلامات مثل فيراري، وألفا روميو، ولانسيا. عمدت شركة زاغاتو، المتخصصة في تصنيع الهياكل الخارجية للسيارات، التي اكتسب مؤسسها خبرته مبكرًا في مجال تصميم الطائرات، إلى تكييف الخبرة في تصنيع الألمنيوم مع تصميم سيارات رياضية ذات مظهر مخادع.
في غضون ذلك، دفعت بيرتونيه، شركة تصنيع الهياكل الخارجية للسيارات، بحدود مزايا الديناميكية الهوائية من خلال مركبات ألفا روميو من طرز بات BAT 5 وبات 7، وبات 9، التي شكلت السيارات التصورية الأشد تأثيرًا في إيطاليا في خمسينيات القرن الفائت، وكلها تولى تصميمها من داخل الشركة نفسها خبير التصاميم فرانكو سكاليونيه. ولم تكن بينينفارينا أقل تطرفًا في طرحها السيارة التصورية X ومركبة Fiat-Abarth Monoposto، وكلتاهما تعودان إلى عام 1960 وتستلهمان تصاميم الصواريخ التي استحوذت على مخيلة العامة مع بزوغ فجر حقبة استكشاف الفضاء. في الفترة الممتدة بين عام 1960 وعام 1970، جرى تصور تصاميم جذرية ربما يفوق عددها ما قُدم في أي عقد آخر. وفي النهاية، كانت السيارات التصورية تبدو من حيث الشكل أشبه بأوتاد منخفضة ومنثنية جسدت مسبقًا وببراعة جماليات الخطوط الحادة التي شاعت في العقد التالي.
كانت سيارة Ford Seattle-ite XXI من عام 1962 نجمة معرض سياتل وورد
كانت سيارتا ألفا روميو كارابو Alfa Romeo Carabo لعام 1968 وLancia Stratos HF Zero لعام 1970 من بيرتونيه، وكلتاهما من تصميم مارتشيلو غانديني، تزهوان بطابع حديث حد الإبهار. تميزت سيارة كارابو ببابين مقصيين استُخدما لاحقًا في تصميم غانديني لسيارات لامبورغيني من طراز كونتاش. لكن الابتكار الأكثر تفردًا على مستوى الإبداع في عام 1970 تمثل بسيارة Ferrari 512S Modulo من بينينفارينا التي صممها باولو مارتن وتميزت بسقف زجاجي في هيئة ظلة انزلاقية رسمت قوسًا انسيابيًا من مقدمة السيارة إلى جزئها الخلفي.
في عام 1978، كشف مصمم شاب طموح من لوس أنجليس يُدعى جيرالد وايغرت عن سيارته الاختبارية Vector W2 التي بدت أشبه بسلاح هجومي وتدي الشكل يتحدى الابتكارات الأكثر ثورية من فيراري، ولامبورغيني، وبورشه. لم تعد شركته قط إلى سابق عهدها في أعقاب خلاف نشب بين أعضاء مجلس الإدارة في عام 1993، بالرغم من أن مصادفة التوقيت جعلت سيارة ماكلارين F1 التي صممها غوردن موراي تحتل موقعًا مركزيًا بوصفها السيارة الخارقة الأقوى في العالم.
إذا كانت السيارات التصورية اليوم لا تبدو غريبة إلى حد صارخ على ما كان عليه حال السيارات السالفة، فالسبب في ذلك يُعزى في جزء منه إلى أن المواد والتقنيات التي كانت تُعد إلى هذا الوقت مستحيلة، مثل المعادن والمواد المركبة غير التقليدية، حتى العجلات القادرة على تحمل سرعة تساوي 300 ميل/الساعة، باتت اليوم ممكنة. وقد أضحت الحلول المقترحة لتعزيز الديناميكية الهوائية، التي شكلت منذ البداية جزءًا رئيسًا من التصميم المستقبلي، مدمجة في أبرز المركبات العادية المخصصة للاستخدام اليومي. كما أن القوة الحصانية لا تنفك تتخطى عتبة القوة المقدرة بألف حصان التي كان يصعب تصورها من قبل، إذ تحولت القوة التي تساوي 1٫500 حصان إلى هدف واقعي للسيارات الخارقة الحديثة.
تعكس سيارة EXP 100 GT التي كشفت عنها بنتلي لعام 2019 تصورًا يزاوج بين القوة الكهربائية ومزايا الفخامة مع بعض وظائف الذكاء الاصطناعي في عام 2035.
أصبحت القوة الهائلة تشكل سمة المركبات المتفردة التي لم تقف التكلفة عائقًا أمام ابتكارها، على غرار La Voiture Noire «أو السيارة السوداء» من بوغاتي التي فازت بجائزة فيلا ديستيه للتصاميم لعام 2019. استُلهمت المركبة القادرة على إنتاج قوة تساوي 1٫500 حصان تقريبًا من طراز تشيرون، وبيعت مؤخرًا لمشتر في مزاد خاص مقابل 12.5 مليون دولار «18.9 مليون دولار شاملة الضرائب».
فيما سيظل المظهر الجميل والأداء المتفوق جزءًا من معادلة السيارات التصورية، تدفع المخاوف الكبرى بشأن الازدحام الخانق على الطرقات السريعة والكرة الأرضية التي تزداد حرًا بسبب احتراق الوقود الداخلي، المصممين والمهندسين وصناع السيارات الذين يستعينون بخدماتهم إلى التفكير في حلول لمقاربة التحديات الجوهرية العالمية في مجال النقل. تزاوج مثلاً سيارة SF90، المركبة الأقوى المخصصة للإنتاج التسلسلي من فيراري، بين محرك V-8 من ثماني أسطوانات وثلاثة محركات كهربائية تنتج مجتمعة نحو ألف حصان.
الواقع أن الأمر بات واضحًا وكأنه مكتوب على جدران محطات الوقود، ومفاده أنه قد يكون من الأفضل الإبقاء في المستقبل القريب على النفط الذي يَنِزُّ من الديناصورات النافقة مدفونًا تحت الأرض لخمسة وستين مليون سنة أخرى. لذا، وبعيدًا عن التشديد على القوة المفرطة الناتجة، بدأت السيارات التصورية التي تُعتمد فيها مجموعات ناقلة للحركة هجينة يُستخدم فيها الوقود أو خلايا الوقود، أو على وجه الخصوص مجموعات ناقلة للحركة كهربائية، تحل سريعًا محل محركات الاحتراق الداخلي. توحي مركبة Audi PB18 e-tron لعام 2018 بأن المستقبل سيكون للسيارات الكهربائية بالكامل. أما سيارة Genesis Essentia EV وسيارة DaVinci ذات البابين المجنحين من Italdesign، وكلتاهما مخصصتان للاعتماد على الطاقة الكهربائية، فتبينان السبيل للمضي قدمًا من منظور صانع للسيارات المخصصة للإنتاج على نطاق واسع في كوريا الجنوبية، واستوديو إيطالي لتصاميم المركبات المصنعة بحسب الطلب. فضلاً عن ذلك، تحولت سيارة تايكان من بورشه هذا العام من مركبة تصورية حملت اسم Mission E في عام 2015 إلى سيارة سيدان مخصصة للإنتاج على نطاق واسع، ما يؤكد أن المستقبل الكهربائي للسيارات يتحقق الآن.
كانت مركبة Buick Y-Job التي تعود إلى عام 1938 أول سيارة تصورية أبصرت النور في ديترويت
هذا كله يفترض مسبقًا أن أحدهم سيحتاج حقًا إلى قيادة سيارات الغد. فمئات ملايين السائقين يقاسون يوميًا مشقة زحمة السير في ساعة الذروة. ومن عساه لا يعتنق الخلاص الذي تعد به بدع القيادة الذاتية الكفيلة بتسريع تنقلات الأفراد اليومية وتحريرهم ليس من فظائع الازدحام الخانق على الطرقات، ولكن أيضًا من حوادث السير والإصابات الجسدية؟ بدأ صناع السيارات في مختلف قطاعات هذا السوق بالتصالح مع «مخطط القيادة الذاتية». فمركبة 103EX التي كشفت عنها رولز-رويس سنة 2016 كانت سيارة تصورية أبزرت التناغم الطبيعي بين الفخامة والقيادة الذاتية. أما صناع المركبات الرياضية، فيواجهون تحديًا أكبر، إذ من الصعب تخيل سائق سيارة من طراز بورشه، أو فيراري، أو كورفيت، يتخلى عن عجلة القيادة من دون أن ينزع أحدهم أصابعه المتشبثة بها بالقوة.
بدأ صناع السيارات في مختلف قطاعات هذا السوق بالتصالح مع «مخطط القيادة الذاتية».
أما السيارة التي توفر مزايا فخامة باذخة جدًا ورؤية بعيدة المدى عن مستقبل القيادة الذاتية، فتتمثل بالمركبة التصورية الكهربائية EXP 100 GT الكهربائية القادرة على إنتاج قوة عزم تساوي 1491.39 نيوتن متر، التي كشفت بنتلي النقاب عنها هذا العام تتويجًا لاحتفاء العلامة بالذكرى المئوية لتأسيسها. تجمع السيارة بين مزايا الذكاء الاصطناعي والظروف المثلى في المقصورة الداخلية، فتُستخدم فيها المؤشرات الحيوية لمراقبة مزاج الركاب، ومعدل ضغط الدم وحرارة أجسادهم. تقوم المقاعد فيها أيضًا مقام كراس مخصصة للتدليك. وفيما يمكن ترشيح روائح زكية، مثل رائحة النسيم البحري أو صنوبر الغابات، داخل المقصورة، تُعزل عنها الروائح الكريهة. في النهاية، قد لا يشكل تولي حاسوب دفة القيادة صفقة خاسرة إذا كان لديك ما يشتت اهتمامك على نحو مثير، على غرار رواية جيدة مثلاً.