إن كانت الأذن تعشق قبل العين أحيانًا، وإن كانت العين مرآة الروح، فالرائحة هي مفاتيح القلب والذاكرة. هي المبتدأ والخبر. وحدها تفلت بخطواتها وتتمرد وتختال بمشيتها. تسبقنا حيث نذهب، وتبقى إن رحلنا. العطر الذي نختاره ليس ملكًا لنا. ما إن نقتنيه ونتعطر به حتى تنبت له قدمان فيهرب منا متسللاً إلى الطرقات التي نعبرها والأماكن التي نزورها. العطر وحده يعبث بالذاكرة فيوقظ فيها تاريخًا من الحكايات.

 

ليس غريبًا أن يتحول العطر إلى رواية، ثم إلى فيلم، ثم إلى حكاية ابتدعتها دار العطور الشهيرة هنري جاك، بعنوان لي توبي Les Toupies لتقدم لنا اليوم شخصيتين جديدتين من تلك المجموعة: رقم 16 ورقم 81. ملامح الشخصيتين مستوحاة من الطبيعة بما تحمله من غموض وسخاء وجمال وتمرد. الأولى أنثوية اجتمع فيها أريج الأزهار من الغاردينيا الآسرة، وزهور إيلانغ إيلانغ من مدغشقر، والبنفسج، والسوسن الفلورنسي، والمسك الأبيض وغيرها. أما العطر 81 فذكوري احتشدت فيه زهور الحمضيات وبرغموت صقلية، ودهن العود، والمسك، والصندل وغيرها.

 

ولما كانت العطور هي الذاكرة التي تحمل بين راحتيها تاريخ الروح والجسد معًا، فالقوارير التي تحتضنها لا تقل أهمية عنها. دار العطور الفرنسية الشهيرة ابتدعت لشخصياتها الروائية تلك ما يليق بها من قوارير كريستالية من تصميم المبدع كريستوف تولليمر. تأتي تلك القوارير التي تحتضن عطور شخصيات Les Toupies على شكل البلابل كما تدل عليه الكلمة بالفرنسية لي توبي. لعبة البلبل تحمل هنا كثيرًا من المعاني المنسجمة مع فكرة العطور هذه. تلك اللعبة التي نديرها بأصابعنا، إلا أنها تنفلت منا في دورانها وتبتعد حيث تشاء وإن توقفت عن الدوران لا تسقط، بل تنحني بعض الشيء بثقة وعنفوان.