ينطلق سباق رالي نيبون من كيوتو وصولاً إلى طوكيو في جولة تستمر أربعة أيام.

يجمع السباق بين المشاركة في قافلة من المركبات التقليدية،

وتجربة اختبار الثقافة اليابانيةواستكشاف طرقاتها عبر المناطق الريفية.

 

حين سأل ديفيد ماك كيردي: «ألا تعتقد أننا نشهد انطلاقة موكب مبهر بحق؟»، وجدت من المستحيل مخالفته الرأي. على الطريق أمامنا، كانت سيارة بوغاتي من طراز T57 تعود إلى عام 1937 ويذكّر لونها بأسود الحبر، وسيارة باللون الأخضر الداكن من نوع بنتلي ديربي من عام 1934، فضلاً عن مركبة رولز-رويس فانتوم 2 من عام 1931 بلون حلوى المرينغ بالليمون، تمضي في مسار متعرج عبر غابات نباتات الخيزران. وكحال هذه السيارات، لم تكن المركبة التي نستقلها بالية. كانت سيارتنا أيضًا تحفة بديعة من طراز فانتوم 2 تعود إلى عام 1934، وقد أعيد ترميمها بشكل متقن. تتميز السيارة بمقصورة أمامية مفتوحة مخصصة للسائق، وهيكل خارجي من صنع شركة ميسيو باركر أند كو التي اشتهرت بتصنيع الهياكل الخارجية لمركبات الملك إدوارد الثامن. أما ملكية مركبتنا، فكان يشي بها طلاؤها الأخضر المميز.

 

تقول ماري غودنايت، مخبرة الاستخبارات البريطانية التي توجز التعليمات لجيمس بوند في فيلم The Man with the Golden Gun «الرجل ذو المسدس الذهبي»: «الكل يعلم أن سيارات رولز-رويس الخضراء كافة تعود إلى ملكية فندق بينينسولا». يُعد ماك كيردي الذي كان يتولى قيادة المركبة رئيس خبراء الطرقات لدى فندق بينينسولا إذا صح القول. هذا الرجل، الذي وُلد في اسكتلندة وترعرع في هونغ كونغ، قد تولى، بطريقة أو بأخرى، مهمة الاعتناء بالمركبات عتيقة الطراز التابعة للمجموعة الفندقية الفاخرة طيلة 25 عامًا تقريبًا. كما أنه الخبير الذي تتجلى الحاجة إلى مهاراته عندما يتعلق الأمر بالقيادة إلى وجهات مميزة. لا شك في أن الحدث الذي اجتمعت لأجله المركبات في موكبنا على هذا الطريق الجبلي في اليابان يستوفي شروط الاستعانة بمهارات ماك كيردي.

 

أطلق سباق رالي نيبون للمرة الأولى سنة 2009، ليتحوّل سريعًا بعد ذلك إلى الحدث الأبرز لاستعراض الفرائد من السيارات. يستقطب السباق الذي يستمر أربعة أيام هواة السيارات من مختلف أنحاء العالم، ويعمد هؤلاء إلى التقدم بطلبات لحجز مواقعهم ضمن 80 موقعًا مخصصًا للمركبات التي تعود إلى ما قبل عام 1975. أصبح مؤخرًا فندق بينينسولا طوكيو، حيث توجد في العادة مركبة فانتوم 2 التي استخدمناها في سياق هذا الحدث، الراعي الرسمي للسباق الذي ينعقد سنويًا في شهر أكتوبر تشرين الأول أو نوفمبر تشرين الثاني. في سباق رالي نيبون، يقطع موكب السيارات ما يزيد على 600 ميل من كيوتو إلى طوكيو، مرورًا بست عشرة مدينة وخمسة مواقع مدرجة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي. يُذكر أن مسار السباق كفيل بأن يولّد إحساسًا بالانبهار حتى لدى أولئك غير المهووسين بالسباقات، لا سيما أنه ينعقد في فصل الخريف حين تكتسي أوراق الأشجار في اليابان لونًا آسرًا يراوح بين الذهبي والأحمر الداكن.

 

سباق رالي نيبون

 

بدأت رحلتنا من العاصمة السابقة للإمبراطورية اليابانية باستعراض تقليدي رائع لفتيات الغايشا في فندق فورسيزونز كيوتو الذي افتُتح مؤخرًا. في صبيحة اليوم التالي، وفيما كان المطر يتساقط رذاذًا من سحب أضفت على السماء لونًا رماديًا أقرب إلى الفضي، اجتمع السائقون من أجل مرحلة فحص المركبات في قلعة نيجو التي كانت قد بنيت قديمًا لأجل رئيس الحكومة العسكرية المؤسس لحكومة المحاربين في حقبة إيدو.

 

موكب استعراضي: كانت قافلة المركبات التي تعود إلى ما قبل عام 1975 تشق طريقها عبر الأرياف اليابانية غير المأهولة والزاخرة بالمناظر الطبيعية الآسرة.

موكب استعراضي: كانت قافلة المركبات التي تعود إلى ما قبل عام 1975 تشق طريقها
عبر الأرياف اليابانية غير المأهولة والزاخرة بالمناظر الطبيعية الآسرة.

 

غادرنا القلعة. وبعد بضع ساعات، بدا لنا أننا نسير نحو المجهول. ففيما كنا نتقدم صعودًا عبر طريق شديد الانحدار إلى قمة جبل هاي، أصدرت سيارة فانتوم طقطقة وهمدت. بدا لي آنذاك أن عقد فريق الأحلام الذي أشارك فيه في هذا السباق قد انفرط. وفيما راح ماك كيردي يعبث بمضخات وخراطيم عتيقة تحتجب تحت غطاء السيارة الأمامي، تنبّهت إلى أن توجيهنا عبر الطريق يقع على عاتق الشخص الذي بحوزته الخرائط، وأنظمة التوجيه، والكتاب المصور الخاص بإشارات السير في اليابان المكون من 135 صفحة. وكنت أنا هذا الشخص.

 

من الصعب أن يحدد المرء أي العناصر في سباق من هذا النوع هو الأكثر روعة وإثارة للانبهار: أهو السيارات نفسها، أم كبار الشخصيات والأقطاب في قطاعات مختلفة، أم أصحاب المليارات من المغتربين، أم الشغوفون بالسيارات الذين يجلسون خلف عجلات القيادة؟ كان أحد اليابانيين يقود شاحنة إطفاء حمراء من طراز MG TD من عام 1952، وهي المركبة نفسها التي استخدمها والده من قبل للتودد إلى والدته في الحفلات الراقصة. أما سيارة مرسيدس المهيبة من طراز 300SL Gullwing من عام 1957، والتي تجاوزت مسرعة مركبتنا المتوقفة جانبًا، فقد استُخدمت مرة لنقل جنرال أمريكي زائر بغية لقاء الإمبراطور في قصره. كانت تتقدم موكبنا سيارة رولز-رويس فانتوم 2 من عام 1931 لمحها مالكها تاد تاكاسو للمرة الأولى قبل نحو 40 عامًا تقف خارج فندق أمباسادور في لوس أنجلوس. أدرك تاكاسو آنذاك أنه سيحتاج يومًا إلى امتلاك هذه المركبة الفاتنة. في فصل الربيع الفائت، عرض جامع سيارات من مدريد المركبة للبيع، فعمد تاكاسو إلى ابتياعها وترميمها. لكن عملية الإصلاح الشاملة التي أخضعت لها المركبة لم تكتمل في الوقت المناسب لشحنها إلى السباق، ما جعل المالك ينقلها إلى اليابان على متن رحلة تجارية للخطوط الجوية الألمانية.

 

سباق رالي نيبون

 

"أنت لا تريد للسائق على متن مركبة تزن ثلاثة أطنان وتبلغ من العمر 80 عاما أن ينعطف

على نحو مفاجئ فيما هو ينطلق بسرعة 60 ميلاً/ الساعة"

 

يبدو أن هذا المستوى نفسه من الشغف هو ما حثّ بداية منظّم السباق، يوسوكي كوباياشي، على إطلاق رالي نيبون. وكوباياشي، الذي يعمل في مجال تقييم العقارات، كان قد ورث حبّه للسيارات التقليدية عن والده. على الرغم من أنه كان يدرك أن في اليابان تجمعًا صغيرًا من هواة السيارات التقليدية، إلا أنه كان يريد للمشاركين الأمريكيين والأوروبيين أن يختبروا الطرقات الخلفية الآسرة وغير المعروفة عبر المناطق الريفية في اليابان. بات هذا الحدث يُعرف اليوم دوليًا باسم La Festa Mille Miglia «عيد الألف ميل» مشكلاً إذ ذاك رد اليابان على سباق الألف ميل الشهير في إيطاليا. لا بد من الإشارة هنا إلى أن المنافسة في رالي نيبون تدور حول دقة الأداء وليس السرعة. فالمركبة الفائزة هي تلك التي تعبر مسار السباق بأكبر قدر ممكن من الدقة في غضون الوقت المحدد للمنافسة. وعلى هذا، إن حدث وأغفل السائق أحد الحواجز، تتراكم الغرامات ويبدأ بخسارة النقاط. يُحتسب الوقت خلال السباق بالأجزاء من الثانية.

 

بوصفي الموكل مسؤولية الملاحة، لم يكن يشغلني الفوز في السباق بقدر ما كان يعنيني احترام التقاليد، وما كان منها يتعلق بالطرقات اليابانية، وثقافة سباقات السيارات، وحتى تقاليد مجموعة بينينسولا الفندقية. ترجع علاقة المجموعة بعلامة رولز-رويس إلى عام 1970، زمن ارتقى فيه فندق المجموعة في هونغ كونغ بجودة أسطوله من المركبات التي تنقل الضيوف في أرجاء المدينة. تشغّل المجموعة اليوم لهذه الغاية أربع مركبات من طراز فانتوم 2 من عام 1934 تتوزع على فنادقها في هونغ كونغ، وطوكيو، وشانغهاي، وباريس. كما أنها تمتلك مجموعة من طرز فانتوم الأحدث، ومن بينها 14 مركبة في هونغ كونغ وحدها. يذكر أن انخراط بينينسولا في عالم فرائد المركبات ينسحب أيضًا على حدث آخر هو تجمع كويل لرياضة السيارات الذي تنعقد نشاطاته في كاليفورنيا. تزامن سباق رالي كويل للعام الفائت، والذي استمر طيلة يومين عبر نحو 200 ميل على امتداد الجروف في شبه جزيرة مونيتري، مع الاحتفاء بالذكرى العشرين لإطلاق هذا الحدث.

 

سباق رالي نيبون

 

إن كان لأحد أن يلاحظ تغيّبنا عند أحد الحواجز (لو جعلتنا على سبيل المثال نضيّع طريقنا وننحرف بعيدًا بعيدًا)، فهو سيكون على الأرجح مايكل كادوري، الذي يقود سيارة السباق رقم 1. يمثّل كادوري بكثير من الزخم والحيوية الجيل الثالث من أصحاب مجموعة بينينسولا الفندقية، وهو يُعد واحدًا من عمالقة عالم الأعمال في هونغ كونغ، وقد سبق له أن نصحني بالالتزام بالقواعد الأساسية التي يُفترض بمساعد السائق أن يحتكم إليها، أي أن أحافظ دومًا على تركيزي، وأطلع مسبقًا على الاتجاهات التي سنسلكها، ولا أترك المجال لأي مفاجأة قد تطرأ فيما أرشد السائق إلى المنعطف التالي يمينًا أو يسارًا. قال لي كادوري: «أنت لا تريد للسائق على متن مركبة تزن ثلاثة أطنان وتبلغ من العمر 80 عامًا أن ينعطف على نحو مفاجئ فيما هو ينطلق بسرعة 60 ميلاً/ الساعة».

 

بعد أن وضع ماك كيردي لمساته السحرية على مركبتنا الضخمة وتمكّن من معالجة التسرب في حشية رؤوس الأسطوانات، عادت سيارة الروز-رويس لتتهادى بنا على الطريق. استطلعت الملاحظات التي دوّنتها حول سرعتنا وراقبت جهازين للنظام العالمي لتحديد المواقع للتأكد من أننا نمضي عبر المسار الصحيح، وأجري التعديلات اللازمة فيما يتعلق بمواقع أعمال البناء وأي مخاطر غير متوقعة، ليس على الطريق فحسب، وإنما أيضًا في السيارة نفسها. فقد طرأت في ذاك اليوم مشكلة في مزلاج باب الراكب الأمامي في سيارة فانتوم (تشكّل التعقيدات ومكامن الخلل جزءًا من متعة قيادة سيارات تقليدية من هذا النوع). كان الباب ينفتح على مصراعيه أحيانًا لدى تجاوز منعطفات حادة، ما يعني أني كنت أمسك بالباب بحزم مدركًا أن بقائي حيًا رهن ببقائه مغلقًا فيما نسارع للحاق بموكبنا النبيل.

 

سباق رالي نيبون

 

كان من الطبيعي أن تطمئن نفسي في ذاك المساء عندما توقفنا في بلدة ياماشيرو أونسن الزاخرة بالينابيع الساخنة والواقعة عند الساحل الياباني. منذ زمن حكم إيدو، شكّلت ياماشيرو موقعًا وادعًا لاستراحة عابري السبيل، ويُقال إن مياهها مفيدة للحد من آلام العضلات، والالتهابات الجلدية، واضطرابات الهضم. هناك لم يكن أجمل من المبيت في نزل أرايا توتوان، وهو نزل تاريخي بُني على طراز مساكن رايوكان اليابانية التقليدية وتولّت إدارته العائلة نفسها على مدى 18 جيلاً. وإذ استقر بي الحال في إحدى غرف النزل التي تغطي أرضيتها حصيرة تاتامي، وتدثّرت برداء يوكاتا التقليدي ويممت وجهي شطر الحمامات الساخنة، رحت أتطلع قدمًا إلى جلسة استرخاء أتخلص فيها من الشعور بارتجاف المفاصل الذي لازمني خلال الطريق.

 

استيقظت في صبيحة اليوم التالي يملؤني شعور بالانتعاش والجهوزية لمواجهة ما سيحمله هذا اليوم من مفاجآت وتقلّبات ملحمية وكأني محارب ساموراي أرستقراطي. عند الغربيين، تشكّل القيادة عبر طرقات اليابان تجربة تزخر بالغرائب والخصوصيات الثقافية. على سبيل المثال، يرتدي الموظفون في أكشاك تحصيل الرسوم عند المعابر سترات ورابطات عنق ينسقونها مع القفازات البيضاء. تظهر على الطرقات السريعة إشارات مرورية باللون البرتقالي تحمل صورة شخصية تُحني رأسها في إشارة إلى الاعتذار الشديد عن أعمال إنشائية على الطريق أمامنا. في مقاطعة شيزووكا، وفيما كنا نتقدم عبر أحد طرقات اليابان المعروفة باسم «الطرقات الموسيقية» ذات الأثلام، عبرنا فوق طبقة إسفلتية كانت «تردد» أغنية فولكلورية تقليدية.

 

قافلة سيارة: سيارة رولز-رويس فانتوم 2 من عام 1934 تعود ملكيتها إلى فندق بينينسولا طوكيو (الصورة أعلاه)، استقبال السائقين لحظة وصولهم إلى الفندق باستعراض موسيقي صاخب.

قافلة سيارة: سيارة رولز-رويس فانتوم 2 من عام 1934 تعود ملكيتها إلى فندق بينينسولا طوكيو
(الصورة أعلاه)، استقبال السائقين لحظة وصولهم إلى الفندق باستعراض موسيقي صاخب.

 

وإذ اجتمعنا مجددًا بموكبنا الأنيق، استطعت أن أهوِّن على نفسي أمر الاضطلاع بمسؤولية توجيه مركبتنا في المسار الصحيح والاستمتاع بالمناظر الطبيعية التي كانت تطالعنا. طوال اليوم الأخير للسباق، كنّا نتقدم عبر طرقات متعرجة تخترق جبال الألب اليابانية القصية حيث القرى التي حافظت على طابعها البدائي، على غرار قرية هايدا تاكاياما وقرية نارايجوكو، لا تزال تزهو ببيوت التجار الخشبية التي تعود إلى مئات السنين والتي تميزها بنية هندسية مصممة في هيئة الحرف A. كنّا نصادف من حين إلى آخر أولادًا يلوّحون لنا بأعلام صغيرة للترحاب بنا حتى لكأننا من كبار الشخصيات فيما الحقيقة أنهم كانوا أحسن حالاً منا. في ذاك اليوم الذي صفت فيه السماء من أي سحب تعكّر زرقتها، تجلّت الأسباب التي تبرر جعل جبل فوجي، الشامخ فوق حقول الأرز في هيئة مثلث مثالي، أعجوبة طبيعية آسرة.

 

قد يبدو من المعيب أن ألفت إلى أن مضخة الوقود في مركبتنا تعطلت أكثر من 12 مرة في سياق رحلتنا، أو أننا عزفنا عن تعقّب نقاط السباق بعد أن أغفلت خمسة منعطفات أو ستة منعطفات مهمة، أو حتى أني قررت أخيرًا، وببعض الأسى، أن أضع جانبًا الخرائط والأدوات التي كنت أسترشد بها. كنا آنذاك، قد بلغنا الطرقات السريعة المهولة في طوكيو. لكن المهم في الأمر هو أننا تمكّنا من الوصول إلى فندق بينينسولا حيث كانت سجادة حمراء تزيّن الممر الرئيس وفرقة موسيقية تعزف لأجلنا مقطوعة جاز تقليدية.

 

سباق رالي نيبون

 

على الرغم من أن الرحلة كانت مميزة بمختلف المقاييس، إلا أني كنت أتوق إلى الصعود إلى غرفتي لكي أستحم وأحظى ببعض الراحة. لفت أحدهم آنذاك مازحًا إلى أن أحواض الاستحمام التي يشتهر بها الفندق عميقة بما يكفي لكي نوقف فيها إحدى سياراتنا. لكن فيما كنت أتجه إلى تسليم أدوات الملاحة التي كانت في عهدتي، وجدت المسؤول عن الفندق ينتظرني مبتسمًا.

 

بادرني كادوري مصافحًا وقال لي: «لقد فعلتها. أنت الآن مستكشف من طراز فرديناند ماجلان». يسرّني بالطبع قبول مثل هذا المديح، وإن كنت لأرضى بمغامرة تجعلني أقرب إلى المخبر جيمس بوند.


‏The Peninsula Hotels
www.peninsula.com
‏Rally Nippon
www.rallynippon.asia