مؤسسة المتحف الوطني الأردني تسلط الضوء على هويتها بوصفها فنانة تكامل شغفها بالفن
مع عشقها الأكاديمي لتاريخه وتجربتها في السلك الدبلوماسي.
إنها الأميرة وجدان الهاشمي، نشأت بين بغداد وعمّان، وعشقت الرسم منذ نعومة أظافرها، منذ كانت ترسم العصافير فوق اللوح الأسود بالطبشور، لتزداد شغفًا مع مرور السنين بعالم تؤكد أنه يعلو بالنفس ويهذب الحس الإنساني ويسمو به فوق كل تعصب وغلو وتطرف. وإن كانت الأميرة وجدان قد اختبرت العمل الدبلوماسي كأول امرأة في المملكة الأردنية تشغل منصبًا في وزارة الخارجية، وتمثّل الأردن في اجتماعات الأمم المتحدة، فإن دورها هذا لم يقف عائقًا أمام مسيرة فنية أثرتها أيضًا بالعمل الأكاديمي. فالفنانة الحائزة شهادة الدكتوراه في الفن الإسلامي من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، تولّت مهمة تأسيس المعهد العالي للفنون والعمارة الإسلامية في جامعة آل البيت الأردنية، وكلية الفنون والتصميم في الجامعة الأردنية، وقامت بنشر مجموعة من الكتب والدراسات في مجال الفن الإسلامي التقليدي والمعاصر. وعلى الرغم من أنها تركت الحياة الدبلوماسية والأكاديمية لتتفرغ لمعارضها الفنية التي تنشرها في العالم رسائل محبة وسلام يستلهم بعضها جماليات الخط العربي، إلا أنها، وبحسب ما روته لنا في لقائنا معها في مكتبها بالمتحف الوطني الأردني الذي قامت بتأسيسه عام 1980، تعد تجاربها في مختلف هذه المجالات محطات أثرت مخزونها الثقافي وإبداعها الفني.
تستلهم بعض أعمالك الفنية روح الحرف العربي وجمالياته، فما سر عشقك للخط العربي تحديداً؟
حقًا، أعشق الحرف العربي. ولا أخفي أن دراستي لتاريخ الفن الإسلامي قد أثّرت بشكل كبير في أعمالي الفنية. فعدد الخطوط التي تحتويها اللغة العربية وسهولة تشكيل الحرف العربي ومرونته كلها تساعد على اختيار الهيئة التي أرغب فيها في سياق تشكيل لوحتي الفنية. فالحرف العربي برأيي يشبه قطعًا من العجين يشكّلها الخبّاز كما يريد. لقد استخدمت مثلاً الحرف العربي مع زجاج مورانو. لكنّي حاليًا أركّز على نوع فني مختلف، وتحديدًا أعمال اللصق الفني والمناظر الطبيعية.
ما سر استخدامك للورق المصنوع يدويا، كورق «الواشي» الياباني وورق الأرز الصيني وغيرهما، في تشكيل لوحاتك الفنية؟
أحب الورق، لا سيما الأوراق التي تختلف باللمس. فمنها الخشن، ومنها الناعم، والشفاف. أفكّر في الورق ليس بوصفه خامة أرسم فوقها، وإنما كجزء أساسي في لوحتي. لا بدّ لي من القول إنّي أثمّن إبداع اليابانيين في مجال صناعة الورق. لدي سبعة أنواع مختلفة من الورق الياباني، ولكل واحد منها مزاياه الخاصة. الواقع هو أنّي أستخدم اليوم الورق في كثير من أعمال اللصق الفنية التي أصوغها. على سبيل المثال، في معرضي «ورق» و«زجاج»، استخدمت أوراقًا من اليابان، والصين، وفيتنام، والهند، والعديد من البلدان الآسيوية. هي أوراق مصنوعة يدويًا، وشفافة في غالبيتها، وقد قمت باستعمالها في هيئة طبقات يتراكب بعضها فوق بعض مع زجاج مورانو المعروف في جزيرة البندقية الإيطالية.
ما الذي دفعك إلى تأسيس المتحف الوطني الأردني؟
كان الهدف من تأسيس المتحف أن نستحدث للفنان الأردني والعربي والإسلامي المعاصر، أو بمعنى آخر مختلف الفنانين في العالم الثالث، منصة يعرضون فيها أعمالهم الفنية. وقد تحوّل هذا المتحف إلى منصة عالمية. فنحن نمتلك اليوم مجموعة من أعمال فنية معترف بها مصدرها أمريكا الوسطى وأفريقيا والهند والعالم الإسلامي، علمًا بأن قلة من الناس كانوا يعرفون بوجود فن معاصر في العالم الإسلامي عندما افتتحنا المتحف عام 1980. لقد كان متحفنا أول جهة تصدر كتابًا عن الفن العربي/الإسلامي المعاصر وهو اليوم يُدرّس في جامعات أمريكية، مع الإشارة إلى أنّي أعمل حاليًا على ترجمته إلى العربية لكي يتم تدريسه أيضًا في جامعاتنا العربية.
تجربتك الفنية لا تقتصر على الإبداع، بل تتجاوزه أيضا إلى العمل الأكاديمي، ومن بينه البحث في تاريخ الفن. فما هي النظرة الإسلامية القديمة للفن التي أظهرتها أبحاثك في هذا المجال؟
دعيني أبدأ بمقولة إن الله جميل يحب الجمال. لكن المؤسف اليوم هو ما يحدث من تشويه للتصور الإسلامي للفن، أو بمعنى آخر لتقييم المسلمين للجمال والفن. فقد دخل علينا أشباه المثقفين والمتدينين بآراء مغلوطة حول مفاهيم الفن في الحضارة الإسلامية. أما تاريخيًا، فلطالما كانت نظرة المجتمع للفن والفنانين في العصور الإسلامية نظرة احترام وتقدير. على سبيل المثال، كان السلطان العثماني بايزيد، حاكم الإمبراطورية الأكبر في العالم، يمسك المحبرة للخطاط كي يشبع ريشته بالحبر. بل إن كثيرًا من الحكّام كانوا رعاة للفنون، من العصر الرومي مرورًا بالعباسي والفاطمي والأندلسي والمملوكي. كما أن التربية الفنية والاجتماعية في تلك الحقب كانت مختلفة لأن الفن كان حاضرًا بشكل رئيس في المجتمع وفي حياة الأفراد. لنأخذ مثالاً على ذلك المصابيح المملوكية التي كانت تستخدم لإضاءة المساجد، أو القطع الخزفية العباسية التي كانت تستخدم في الحياة اليومية، ولم تكن محفوظة في المتاحف فحسب كما هو الحال اليوم. كانت الحياة العربية الطبيعية تتميز بالاهتمام بالجمال والفن، وفن الخط العربي، والمنمنمات والتصوير، وكان الفنان يُسمى «الصانع»، وهي تسمية تشمل الفنان والحرفي على حد سواء. أما اليوم، فبات المجتمع ينظر للأسف نظرة دونية إلى الحرفي، وإن نظر إلى أعمال الفنان فإنه يفعل ذلك دون أن يوفيها حق التقدير.
أتاح لك منصبك كسفير للمملكة الهاشمية الأردنية بإيطاليا الفرصة للتعمق في الفن الأوروبي. فكيف تصفين تجربتك الفنية هناك؟
برأيي أن التجربة الفنية هي الانطباعات التي تتكون لدى المرء عن كل ما حوله، أي الطبيعة والأشخاص والأحداث، وغير ذلك من عناصر تتفاعل في نفس الفنان ثم يعيد صياغتها في هيئة فعل إبداعي. ولا أخفي أن تجربتي في إيطاليا قد أثرت حياتي الفنية. لا ننسى أن 75 في المئة من التراث الفني العالمي موجود في إيطاليا. بل يكفي أن عصر النهضة الأوروبية بدأ من فلورنسة. كما أن الطبيعة الإيطالية الساحرة ألهمتني على نحو بالغ وأضافت كثيرًا إلى مخزوني الفني. فالعلم والمعرفة يشكلان فضاء لا نهاية له.
بين الفن والسياسة، نقاط تلاق واختلاف. فهل كان الاختلاف هو ما دفعك إلى اعتزال الدبلوماسية والعودة إلى عالم الألوان، موطن شغفك الأول؟
أنا أؤمن بمشيئة الله تعالى، وبأن كل ما يحدث في حياتنا، يحدث لغاية ما. فلا شك في أن ثمة غاية من كوني اعتنقت الرسم والفن في سن مبكرة، والأمر نفسه ينطبق على دخولي السلك الدبلوماسي. لقد أسست كلية الفنون في الجامعة الأردنية والمعهد العالي للعمارة الإسلامية في جامعة آل البيت، ودرست تاريخ الفن الإسلامي في جامعة اليرموك، كما أنّي حزت شهادة الدكتوراه بعد أن أنجبت أولادي كلهم، وعملت سفيرة في إيطاليا خمس سنوات تعلمت خلالها كثيرًا واكتشفت أشياء كثيرة في مجالات الثقافة والأدب والفن. أقصد أن تجربتي الحياتية كانت غنية جدًا، وأعد نفسي محظوظة بذلك. بل إني لا أجد أي تعارض بين الدبلوماسية والفن. فمختلف الأحداث التي اختبرتها في كلا المجالين أثرت حياتي بالتجربة ومعرفة الغير والعمل. لذا أرى أن أحدهما يكمّل الآخر.
بوصفك امرأة وفنانة من العالم النامي، هل واجهت أي صعوبات أو تحديات في سياق السعي إلى نشر أعمالك الفنية ذات الطابع الإسلامي على المنصة العالمية؟
على الإطلاق، لم أواجه أي صعوبة في هذا المجال، وأعمالي الفنية معروضة في متاحف أوروبية وأمريكية. ربما كان الوضع أصعب لو أنّي كنت أخوض غمار العالمية اليوم بحكم ما تشهده المنطقة حاليًا من صراعات. لكنّي عمومًا أعتقد أن تقييم الغرب للأشخاص لا يأخذ في الحسبان خلفياتهم. فالعمل الفني يظل يحظى باستحسانهم وقبولهم طالما أنه عمل جيّد.
كيف تقيّمين دور المرأة العربية في مجتمعها؟
إني فخورة جدًا بالجيل الصاعد من الفتيات المثقفات المبدعات اللاتي يعملن بجدية لصالح مجتمعاتهن وبلدانهن، وأستبشر خيرًا فيما سيحققنه في المستقبل. لكنّي في المقابل أشعر بالقلق من التوجهات السائدة في أوساط «المجتمع المخملي» وانجراف بعض السيدات العربيات وراء الماديات وتوافه الأمور. نحن نعيش في زمن يشهد فيه العالم حروبًا مختلفة، وما يخيفني تحديدًا هو هذا الصراع الذي تعيشه الشعوب العربية بين التطرف الديني وقهر المرأة، وبين الانفتاح على المبادئ المغلوطة وتقييم الناس على أساس مقتنياتهم.
ترى الأميرة وجدان أن الفن كان في الحقبات الماضية حاضرًا بشكل رئيس في المجتمع الإسلامي وفي حياة الأفراد،
مشيرة إلى أن الأعمال الفنية كانت تستخدم في الحياة اليومية، ولم تكن محفوظة في المتاحف فحسب.
بعيدًا عن عالم الفنون، هل تستهويك عوالم أخرى؟
أهوى المطالعة، ولا أستطيع العيش دون كتاب. بل إن ابنتي أهدتني جهازًا إلكترونيًا يجعل المطالعة أسهل خلال السفر، وإن كنت أستمتع أكثر عندما أقلّب صفحات الكتاب بين يديّ.
وأيّ الكتب تحظى بمكانة خاصة لديك؟
لا يمكنني الحديث عن كتاب محدد. ففي كل مرحلة تستهويني مطالعة مؤلفات من نوع مختلف. قد أقرأ في فترة ما أعمالاً عن الصوفية، وفي فترات أخرى عن التاريخ، علمًا بأنّي أعشق هذا الموضوع تحديدًا. خلال إقامتي في إيطاليا مثلاً، انهمكت في قراءة قصائد «أغنيات ملكية»، واليوم أطالع مؤلفات خبيرة التغذية المجازة إليزابيث إيلاندر.
خلال أسفارك، أي البلدان أو المدن خلّفت في وجدانك أثرًا خاصا؟
أحب تركيا، وتحديدًا بودروم التي أحرص على زيارتها كل عام. فهناك أمكث شهرًا أو أكثر في منزلي المتواضع الذي يوفّر لي إطلالة ساحرة على الأفق البحري. كذلك إيطاليا التي أمضيت فيها خمس سنوات كانت الأجمل في حياتي، تركت أثرًا بالغًا في نفسي. كما تفتنني من العواصم بيروت حيث تلقّيت أولى دراساتي الجامعية، ومثلها لندن وباريس وفاس وبرشلونة. فلكل من هذه المدن طابع جمالي خاص بها.
لا أجد أي تعارض بين الدبلوماسية والفن. فمختلف الأحداث التي اختبرتها
في كلا المجالين أثرت حياتي بالتجربة ومعرفة الغير والعمل. لذا أرى أن أحدهما يكمل الآخر.
ما هو تصورك ليوم مثالي؟
سواء كان الطقس مشمسًا أو ماطرًا، من الضروري عندي أن يبقى في يومي وقت فراغ أقرّر بنفسي كيف أقضيه. في العادة، لدي مواعيد كثيرة. في الفترة الصباحية، أقصد المتحف لمتابعة بعض الأعمال والمشاريع، وأقابل فنانين من الخارج. بعد الظهيرة، أقضي معظم وقتي بالقراءة في حديقتي، أو قد أحضر بعض الندوات مثل تلك التي تنظمها جامعة كولومبيا وتستضيف فيها خبراء وأكاديميين من المملكة الأردنية الهاشمية وخارجها، علمًا بأنّي أحرص أيضًا على المشاركة في النشاطات الافتتاحية للمعارض الفنية، لا سيما تلك التي تتناول أعمال فنانين من فئة الشباب. أما في المساء، فأتشارك العشاء مع أصدقائي.
ما تعريفك للسعادة؟
لا أخفي أن مفهومي للسعادة تبدّل مع تقدّمي في السن، واليوم سعادتي تعني شعوري بالسلام الداخلي. ما يهمني حقًا هو أن أبقى مع أولادي بصحة جيّدة ونشعر بالرضا والراحة. أما الأمور المادية، فلا تشكّل موضع اهتمام عندي. لا أكترث مثلاً لفنجان قهوة مزخرف بخيوط من ذهب. ما يعنيني حقيقة هو مذاق القهوة في الفنجان. جدران منزلي تزدان باللوحات الفنية والكتب، وأسعى دومًا لاكتساب المعرفة.