مؤسس علامة فارفيتش يوحد صفوف الخصوم من خلال صفقة بقيمة 1.15 مليار دولار ويواصل رسم المسار المستقبلي للتسوق.
يمضي خوسيه نيفيس، مؤسس شركة فارفيتش Farfetchلبيع المنتجات الفاخرة عبر الإنترنت - المنصة التي تحظى بأكبر عدد من المتابعين من مختلف أنحاء العالم – ورئيسها التنفيذي، الجزء الأكبر من وقته في لندن مع زوجته وأولاده الخمسة. في محادثة أجريناها معه عبر تطبيق زوم، كان يرتدي قميصًا بسيطًا قصير الكمين يتعارض لونه الأسود مع جدران الحجرة التي يغلب عليها لون أبيض ناصع. كان نيفيس، البرتغالي الأصل، قد أنهى في صباح ذلك اليوم جلسة تأملية استمرت 45 دقيقة. لكنه يحرص على استخدام تقنيات التأمل الواعي طيلة اليوم. أفادته هذه الممارسة خصوصًا خلال مرحلة الاضطرابات العام الفائت. يقول نيفيس: "إن الأساس في التأمل هو أن يبقى المرء متيقظًا في اللحظة الراهنة. عندما تطرأ الأزمات، يمكنك الاستفادة حقًا من هذه الخاصية لأنك تمرّن ذهنك على أن يكون واعيًا لحقيقة أن الظروف الخارجية المحيطة بك ستنقضي كلها. ما عليك إلا أن تتقبل هذه الظروف وتحدد رد الفعل المناسب لك."
آتى هذا النهج ثماره. ففيما كان يواجه قطاع الأزياء أزمة إقفال المتاجر، والمخزون غير المباع، ويحاول تجاوز هذه الظروف كلها، كان موقع فارفيتش يشهد نموًا هائلاً: حقق الموقع بين سنة وأخرى زيادة بنسبة 82% في إجمالي الأرباح. لكن السبب لم يكن مصادفة غذّاها المتسوّقون المحتجزون في منازلهم والمدفوعون برغبة ملحة للإنفاق. فمنافسو فارفيتش على المنصة الرقمية اضطروا إلى إلغاء طلبات، وإقفال مراكز إعداد الطلبات، الأمر الذي أدى بطبيعة الحال إلى خسائر.
الجيل المقبل من الفخامة في إطلالة من علامة أوف وايت.
تحالف الخصوم
ما يتمايز به موقع فارفيتش هو أنه ليس موقعًا للبيع بالتجزئة بالمعنى التقليدي. صحيح أنه يوفّر منتجات من 1,300 علامة تقريبًا، من الدور الكبرى مثل غوتشي وبرادا إلى العلامات الحصرية مثل لارديني وجيرار – بيريغو، إلا أنه لا يبتاع حقيقة أي مخزون. بدلاً من ذلك، يجري توفير المخزون مباشرة من الشركات المصنّعة، ومن أقسام البيع في 750 متجرًا للبيع بالتجزئة تتفاوت بين محال متخصصة ومتاجر كبرى متعددة الأقسام موزعة عبر 50 دولة. نجم عن ذلك استحداث طوق نجاة للمتاجر الفاخرة التي كانت لولا ذلك لتقفل أبوابها بسبب القيود التي فرضتها جائحة كورونا. لذا نجحت شبكة فارفيتش العالمية الموسّعة في التكيف ببراعة مع الظروف الراهنة فيما كانت تجاهد مواقع أخرى للبيع بالتجزئة عبر الإنترنت لتسريع سير العمل في مخازنها القليلة.
أوجدت الجائحة عاصفة مثالية لإثبات قوة نموذج فارفيتش. فالشركة حققت طفرة بنسبة 475% في قيمتها في السوق سنة 2020، فزاد إجمالي هذه القيمة على 21 مليار دولار. لنضع هذه الحالة في السياق نفسه مع الشركات الأخرى التي حققت نجاحًا باهرًا في عام 2020: ازدادت قيمة شركة بايونتيك BioNTech المطوّرة للقاحات بنسبة 125%، فيما ارتفعت قيمة تطبيق زوم Zoom بنسبة 408%. كان أداء فارفيتش وحده كفيلاً بأن يجعل من العام الفائت سنة متميزة للشركة. لكن ما زاد في هذا التميز هو الإعلان في شهر نوفمبر تشرين الثاني الفائت عن أن نيفيس نسق لصفقة ضخمة من خلال تحالف لم يكن مرجحًا بين عمالقة في هذا القطاع.
قد يخال المرء عندما يكتشف الجهات المعنية، التي تضم شركة علي بابا، ومجموعة ريشمون، وشركة أرتيميس، أنه يصغي إلى دعابة يلقيها أحدهم في مؤتمر دافوس. تجسد شركة علي بابا نموذجًا مثاليًا للقوة العظيمة المتزايدة التي يمثلها المتسوقون الصينيون، فيما مجموعة ريشمون تمتلك دورًا راقية مثل كارتييه ودانهيل، فضلاً عن مجموعة Yoox Net-a-Porter، المنافس الأكبر لنيفيس. أما أرتيميس، فتسيطر على مجموعة كيرينغ التي تنضوي تحت مظلتها علامات شهيرة مثل بوتيغا فينيتا وسان لوران.
تُعد الشركات الثلاث خصومًا في الحروب التي يشهدها قطاع التجارة الإلكترونية، لكنها تراهن في الوقت نفسه على مقدرة نيفيس على إعادة تصور أساليب التسوّق. استثمرت كل من شركة علي بابا ومجموعة ريشمون 300 مليون دولار في فارفيتش. أما أرتيميس، التي يديرها فرانسوا – هنري بينو، فضاعفت قيمة الاستثمار الذي خصت به الشركة سنة 2018 وصولاً إلى 100 مليون دولار. كما تضافرت جهود علي بابا وريشمون مع فارفيتش في مشروع جديد يحمل اسم فارفيتش الصين Farfetch China، فساهمت الشركات الثلاث مجتمعة بمبلغ 500 مليون دولار مقابل 25% من الأسهم، مع خيار زيادة الحصة إلى 49% من الأسهم في غضون ثلاث سنوات. في خضم حالات الإفلاس، والقلق بشأن مستقبل البيع بالتجزئة، خرج نيفيس من السنة الكارثية قدوة يُحتذى بها في قطاع المنتجات الفاخرة من حيث البراعة في التعامل مع النظام العالمي الجديد.
متجر براونز Browns، نسخة نيفيس الخاصة من متجر المستقبل.
بين عالمين
ولد نيفيس سنة 1974، العام نفسه الذي انقلبت فيه البرتغال على نظام الحكم الفاشي فيها. بل إنه يميل إلى القول ممازحًا إن هذه النزعة الثورية مصدرها أمه "التي كانت تقف مثقلة بحملها فوق إحدى الدبابات." لكن إعادة صياغة قواعد البيع بالتجزئة في قطاع المنتجات الفاخرة لم يكن الانقلاب الذي خطط نيفيس لقيادته. فالرجل، الذي يصف نفسه بالشغوف حد الهوس بعالم الحاسوب، كان في الأصل مولعًا بالبرمجة. بل إنه كان لا يزال في الثامنة من العمر عندما شملت قائمة الهدايا التي يتمنى أن يحظى بها جهاز ZX Spectrum، أحد أوائل الحواسيب المنزلية التي وُزعت آنذاك على نطاق واسع. يتذكر فينيس كيف كان يجدّ في البحث عن أي كتاب ويعلّم نفسه تقنيات بناء واجهات تفاعلية أكثر حيوية للمستخدمين. وعندما بلغ مرحلة الدراسة الجامعية، لم يكلف نفسه عناء دراسة علم الحاسوب، بل اختار بدلاً من ذلك علوم الاقتصاد.
في غضون ذلك كله، كانت الأزياء تشكل جزءًا من نسيج حياة نيفيس خلال مرحلة الطفولة. فالمنطقة التي يتحدر منها تُعد معقل إرث صناعة المنتجات الجلدية الممتد عبر قرون عدة في البرتغال، وجدّه كان يدير مصنعًا للأحذية. لكن القطاع المميز لبلدته الأم لم يجتذبه، شأنه في ذلك شأن أي مراهق متمرد.
يقول نيفيس: "كنت أكره الأزياء وأجدها شأنًا تافهًا لتبديد الوقت والمال، وغير مجدية في الأساس. كنت حقيقة أبغض الأزياء على ما هو عليه اليوم حال كثير من المختصين في التقنية الذين يزدرون عالم الأزياء إلى يومنا هذا."
لكن روح رائد الأعمال التي يتحلى بها دفعته في نهاية المطاف إلى الانفتاح على الاقتصاد المحلي. في مرحلة الدراسة الجامعية في مطلع تسعينيات القرن الفائت، كان نيفيس يعمل على تطوير برنامج لعيادات طب الأسنان عندما التقى وشيبريانو سوزا الذي يشغل اليوم منصب الرئيس التنفيذي للتقنية في فارفيتش. أطلقا معًا حينها شركة تتولى تطوير برمجيات لكثير من مصانع الأحذية في المنطقة.
بالرغم من أن خدمة مزوّدي النعال لم تكن جذابة قط، إلا أن نيفيس لم يلبث أن رأى في قطاع الأزياء تذكرة عبور إلى عالم أوسع. في أثناء حضور معرض تجاري للأحذية في ميلانو، وفيما كان يتواصل مع باعة ومشترين من مختلف أنحاء العالم، شعر برغبة ملحة للإتيان بابتكار شخصي. أقنع نيفيس، متسلحًا بعناده المألوف، صانعًا للأحذية بأن يدرّبه لمدة ساعة كل صباح قبل بدء العمل، فتعلّم قص النماذج وصنع قوالب الأحذية يدويًا. في عام 1996، كان قد بلغ الثانية والعشرين من العمر، وانتقل إلى لندن حيث افتتح متجرًا بمساحة صغيرة جدًا لعلامة الأحذية الرياضية التي أطلقها تحت اسم سوير Swear.
"يمتلك نيفيس مصنعه الخاص لإنتاج المحتوى المتفرد، بالإضافة إلى سلالة حديثة بالكامل من شركات الأزياء تمتد جذورها عميقا في أرض الحقبة الرقمية. إنها مقاربة لمفهوم الفخامة تعكس سلوك نيفيس المتمايز في القرن الحادي والعشرين"
بدأ نيفيس مسيرته في كل من قطاع التقنية وقطاع الأزياء في آن واحد تقريبًا، وكان يمتلك دومًا رؤية واضحة حول إمكانية تعايش هذين العالمين. إن الأمر أشبه بسلالة متفردة عندما يتعلق بالإدارات التنفيذية في قطاع الأزياء. يقول سوزا، الذي استمر في العمل مع نيفيس على شركة البرمجيات طيلة فترة توسع نشاط نيفيس إلى عالم البيع بالتجزئة: "من النادر أن نجد رواد أعمال يستحسنون هذين العالمين ويألفونهما في آن. أقصد شخصًا نشط في تطوير البرامج باستخدام لغة البرمجة، وفهم التقنية وقدراتها وحدودها، وكان في الوقت نفسه مبتكرًا في قطاع الأزياء وعارفًا بمختلف جوانب هذا العالم."
بداية، لا تقتصر التقنية من منظور نيفيس على كونها استراتيجية عمل. إنها حدس. في عام 1997، عندما كانت التجارة الإلكترونية لا تزال بدائية، قام نيفيس بالخطوة الجريئة التي تمثلت بإطلاق الموقع الإلكتروني لعلامة سوير. كان في البدء يرى في هذا الموقع حلاً عمليًا للمتاعب التي ينطوي عليها القيام بالأعمال على أرض الواقع. فمتجره كان صغير المساحة، ولا يحظى بموقع جاذب للأنظار، كما أنه يعتمد إلى حد كبير على حركة المارة على هو عليه حال معظم المتاجر المماثلة. يقول نيفيس: "أدركت أني أستطيع أن أحظى في كواليس المتجر بموقع إلكتروني يمكن للآخرين الاطلاع عليه على مدار الساعة مع الحفاظ على المخزون نفسه وطاقم العمل نفسه." كان يتأتى لجمهور العلامة أن ينمو على نحو مطرد. كانت تلك اللحظة التي اتضحت فيها الأمور كلها. يقول نيفيس: "انقضى 11 عامًا بين إدراكي لهذه الحقيقة وإطلاق موقع فارفيتش، لكني عرفت آنذاك أن شبكة الإنترنت ستغيّر وجه عالم الأزياء."
بناء الجسور
إن إدراك نيفيس عن طريق التجربة المباشرة للصعوبات التي تختبرها علامة مستقلة وصاحب متجر، يشكل جزءًا لا يتجزأ من فارفيتش. يؤثر نيفيس النظر إلى كون الشركة ذات طابع تعاوني لا يجرّدها من استقلاليتها في الوقت نفسه. فالشركة توفّر للمتاجر موارد ونطاقًا لا يمكن لأي متجر أن يبلغه منفردًا.
غالبًا ما تجري مقارنة نموذج منصة فارفيتش بمنصة أمازون، ويُنظر عادة إلى نيفيس من حيث كونه جيف بيزوس في عالم الأزياء. يقول نيفيس: "أشعر حقيقة بالإطراء"، مضيفًا أنه لا يكنّ سوى مشاعر التقدير لملك مفهوم الشراء عبر الإنترنت. لكن المقارنة ليست متكافئة كليًا. يقول نيفيس: "تنظر أمازون إلى هذا العمل بوصفه لعبة محصلتها صفر. إن هدفها هو القضاء بالكامل على العالم خارج شبكة الإنترنت". أما نيفيس، فلا يقتضي دوره أن ينافس تجار البيع بالتجزئة خارج شبكة الإنترنت، بل أن يساعد على "تمكينهم". وفي هذا يقول: "لسنا سوى منصة. لا يمكننا إلا أن نبيع ما يبيعونه. وعندما نساعدهم على النجاح، نصبح قادرين على تحقيق نجاحنا."
إن هذا الإحساس بالواجب تجاه المنظومة الأوسع نطاقًا لعالم الأزياء هو ما يميّز نيفيس عن الأسماء المؤثرة الأخرى في قطاع البيع بالتجزئة.
تقول كارمن بوسكيتس، المستثمرة التأسيسية في موقع Net-a-Porter، وسيدة الأعمال الملقبة بعرّابة التجارة الإلكترونية: "لولا فارفيتش، لاختفى كثير من المتاجر المحلية المفضلة لدينا." تصف بوسكيتس، التي استثمرت في فارفيتش منذ سنة 2015، نيفيس بصاحب "الحضور الحيوي" في عالمي الأزياء والمال على حد سواء. وإذ تعلّق على براعته في حشد الخصوم حول هدف مشترك، تقول: "لم أصادف مؤسسًا مثله طيلة سنوات خبرتي الثلاثين. يقتضي الأمر أن تُقصي الإحساس بذاتك عن الصورة." سهّلت براعة نيفيس في بناء الجسور بدلاً من إحراقها نشأة ظاهرة لم يعرفها من قبل تاريخ قطاع البيع بالتجزئة. تقول بوسكيتس: "إنه يعرف كيف يكون ودودًا، وهذا أمر لا يقدر عليه سوى عدد ضئيل منا في قطاع الأزياء."
فيما يتعلق بفارفيتش، يقول نيفيس: "ابتكرت هذا المجتمع الذي يضم أفرادًا ينافسون نظريًا بعضهم بعضا"، مشيراً إلى أن متجرًا في ميلانو وآخر في لندن يبيعان في غالب الأحيان المنتجات نفسها. لكن ما يعنيه ذلك على منصة فارفيتش هو توافر مخزون أكبر وتقلص المخاوف فيما يخص توافر المنتج بالمقاس المطلوب. يُشحن المنتج من المتجر الأقرب إلى موقع الزبون. بل يمكن في بعض المدن تسليم بعض المنتجات في غضون 90 دقيقة. يرى المتسوق عنصرًا جاذبًا في المقدرة على الوصول إلى منتجات مئات المتاجر من خلال موقع إلكتروني واحد. تُعنى علامة فارفيتش، مقابل عمولة على كل طلب، بتصوير المنتجات المعروضة للبيع، والتسويق لها، وبيعها وتسليمها إلى 2.7 مليون متسوّق موزعين على أكثر من 190 دولة.
يعرض موقع فارفيتش مجموعة وفيرة من الساعات، بما في ذلك طراز Submariner من رولكس.
متمرد يهز القواعد
تعود أحذية علامة سوير من طراز سايبر بانك Cyberpunk إلى تسعينيات القرن الفائت. كانت تلك الأحذية تتميز بنعالها الضخمة وخطوطها المبهرجة، وتبدو اليوم أشبه بنسخ اختبارية سابقة من أحذية بالنسياغا. في نهاية المطاف، بلغ الأسلوب التصميمي المميز لتلك الأحذية تاريخ انتهاء صلاحيته، وشهدت علامة سوير انهيارًا ساحقًا. لكن ذلك لم يثبط عزيمة نيفيس الذي حوّل اهتمامه إلى مشروع جديد في مجال البيع بالتجزئة. افتُتح متجره بي ستور B Store الذي يعرض منتجات علامات متعددة في عام 2001، وتحوّل إلى منصة لانطلاقة جيل جديد من المصممين في لندن، قبل أن ينتقل في النهاية إلى سافيل رو، ويفوز سنة 2006 بجائزة العام لأفضل متجر للبيع بالتجزئة في حفل جوائز الأزياء البريطانية.
في هذا المتجر اختبر نيفيس منافع التجارة التقليدية التي ترتكز إلى القيام بالأعمال على أرض الواقع، لكن فكرته عن القدرات الكامنة للتسوق عبر الإنترنت كانت أعظم من أن يتجاهلها. خلال أسبوع باريس للأزياء في أكتوبر تشرين الأول من عام 2007، بعث برسالة إلكترونية إلى سوزا يعلمه فيها بالفكرة التي واتته: تعليق العمل على تطوير البرمجيات وتوجيه طاقتهما في مجال البرمجة إلى بناء منصة للتجارة الإلكترونية.
كان سوزا قد عمل مع نيفيس على الجوانب التقنية لكثير من أوجه هذا القطاع، من التصنيع إلى البناء. وفيما يستعيد تلك الذكرى، يقول: "كان أول ما تبادر إلى ذهني هو أنه يرغب في تشارك ما نفعله مع العالم عبر جمع هذه الخبرات كلها على منصة واحدة متاحة للآخرين."
أُطلقت فارفيتش في العام التالي بمشاركة 25 متجرًا للبيع بالتجزئة من مختلف أنحاء أوروبا. كانت تلك بداية واعدة إلى أن أفلس بنك ليمان براذرز بعد أسبوعين. في خلال السنوات الثلاث الأولى، كان الموقع الإلكتروني يُموّل ذاتيًا من خلال نيفيس ومشاريعه الأخرى. لكن ذلك لم يكن أسوأ متاعبه المتزايدة. فعلامات دور الأزياء كانت لا تزال تعارض بشراسة مفهوم التجارة الإلكترونية. بل إنها كانت ترى في نيفيس متمردًا يتجاوز القنوات التقليدية للبيع بالجملة ليبيع منتجاتها عبر الإنترنت. باختصار، ساد التوتر الأجواء.
يتذكر نيفيس تلك المرحلة قائلاً: "في السنوات الخمس الأولى، كدت أصاب بانهيار عصبي في كل أسبوع للأزياء." كانت المتاجر تواصل حجز مواعيد تقليدية مع علامات الأزياء لشراء منتجاتها، لتجد نفسها في مواجهة الإنذار الأخير: توقفوا عن البيع عبر منصة فارفيتش أو انسوا أمر الحصول على مجموعاتنا. يقول نيفيس: "كنت أستقل الطائرة وأتوجه بنفسي إلى باريس أو ميلانو أرجو من تلك العلامات إعطاءنا فرصة للبقاء."
يعرض موقع فارفيتش مجموعة وفيرة من الساعات، بما في ذلك طراز Submariner من رولكس.
مقاربة متمايزة
عندما بدأت النخبة في قطاع المنتجات الفاخرة تتقّبل تدريجيًا أسلوب العمل الرقمي، كانت تدرك بمن يجدر بها الاتصال. تبيع اليوم أكثر من 550 علامة منتجاتها مباشرة عبر موقع فارفيتش الذي يعرض أيضًا مجموعات من غوتشي وبربري وغيرهما تُبتكر خصوصًا لفارفيتش. كما توفّر الشركة التقنية التي تغذي مواقع التجارة الإلكترونية الخاصة بكثير من العلامات.
بعد مرور عشر سنوات على إطلاق فارفيتش، تحولت سنة 2018 إلى شركة مساهمة عامة شكل طرح أسهمها للاكتتاب العام في سوق وول ستريت حدثًا مثيرًا. تحوّلت الشركة التي قُدرت قيمتها بنحو ستة مليارات دولار إلى واحدة من العلامات المنشودة بعيدة المنال في قطاع الأزياء. بالرغم من الحماسة التي أحاطت بالشركة، إلا أن بعض المستثمرين أصيبوا بالذهول عندما انطلق نيفيس في العام التالي منفردًا في حملة استحواذ. فلا أحد على ما يبدو كان يتوقّع عمليتي الاستحواذ على شركة ستاديوم غودز Stadium Goods، المتخصصة في إعادة بيع الأحذية الرياضية، مقابل 250 مليون دولار، وعلى مجموعة نيو غاردز New Guards ، التي تضم علامات تستثير الاهتمام مثل أوف وايت Off-White وبالم إنجيلز Palm Angels. هبطت أسهم الشركة بنسبة 42% في يوم واحد.
لكن نيفيس كان ينفذ بالطبع خطة محددة. كانت شركة ستاديوم غودز تركّز على السوق الثانوية المزدهرة للأحذية الرياضية التي تستحق الجمع، ولم تكن أي شركة رئيسة للبيع بالتجزئة قد اقتحمت هذه السوق بعد. أما مجموعة نيو غاردز، فانجذب إلى محفظتها من الشركات لأن المصممين المنضوين تحت مظلتها، على غرار فيرجل أبلو من علامة أوف وايت، يتحلّون بما يصفه فينيس "بموهبة ابتكار الحركات". للمفارقة، كان بناء اسم العلامة مجالًا تكافح فيه فارفيتش، إذ إنها لم تكن قد حظيت بعد بالشهرة التي اكتسبها اسم Net-a-Porter ، فما بالك بنيمان ماركوس؟ أتاحت عمليتا الاستحواذ للموقع الإلكتروني الوصول إلى المنتجات الحصرية لعلامات ينشدها جيل الألفية وجيل ما بعد الألفية، فاحتكر بذلك سوقًا رائجة. فضلاً عن ذلك، كانت عمليتا الاستحواذ مفيدتين للأعمال: كان يوم إطلاق مشروع التعاون بين علامة أوف وايت وشركة نايكي واحدًا من الأيام التي حققت فيها فارفيتش أعلى الأرقام على مستوى المبيعات. كما أن المنتجات الخاصة بالعلامات الجماعية لمجموعة نيو غاردز حققت باستمرار مبيعات تفوق ما تحققه أي علامة أخرى على الموقع الإلكتروني.
يستطيع عشاق الملابس الفاخرة أن يجدوا بغيتهم من منتجات بريوني على موقع فارفيتش.
يقول نيفيس موضحًا: "بدأت نتفليكس تحذو حذونا، وتجمع محتواها من شركات أخرى. في لحظة حاسمة ما، يقول القيّمون على الشركة: إذا ما أردنا ابتكار علامة متفردة حقيقة، فإننا نحتاج إلى محتوى متميز لا يمتلكه غيرنا." إذا ما أخذنا في الحسبان مجموعة العلامات التي تنضوي تحت مظلة فارفيتش، فإن نيفيس يمتلك مصنعه الخاص لإنتاج المحتوى المتفرد، بالإضافة إلى سلالة حديثة بالكامل من شركات الأزياء تمتد جذورها عميقًا في أرض الحقبة الرقمية. إنها مقاربة لمفهوم الفخامة تختلف اختلافًا كبيرًا عن مقاربة الدور التراثية في مجموعتي إل في إم إتش LVMH وكيرينغ. إنها مقاربة تعكس سلوك نيفيس المتمايز في القرن الحادي والعشرين. يقول نيفيس: "لقد تغيّر العالم. ما عاد الأمر يتعلق بتكتّل يبتاع علامتك ويفتتح 200 متجر في أنحاء مختلفة من العالم. ولّت تلك الأيام."
فضلاً عن ذلك، يتمايز نيفيس بأريحية عن الصورة النمطية للرئيس التنفيذي في قطاع الأزياء، إذ إنه يتفادى ارتداء البذلات متقنة الحياكة لصالح إطلالة أكثر جرأة من علامتي ريك أوينز Rick Owens وأندركافر Undercover. وفي كثير من الأيام، ينتعل حذاء رياضيًا من العلامة البرازيلية أوسكلين Osklen مشغولاً من جلود مستدامة تُصّنع من حراشف الأسماك. لكن بغض النظر عن زيه، فقد أكسبته استراتيجيته مكانة خاصة في المراتب العليا. لا تلطف بوسكيتس إجابتها عند سؤالها عن إمكانات فارفيتش، بل تقول: "أرى أنها قد تفوق إل في إم إتش وكيرينغ. فلا أحد حاليًا يضاهي خوسيه في فهمه لقطاع المنتجات الفاخرة."
آفاق توسعية
أضاف نيفيس أيضًا إلى محفظته المتنامية المتجر البريطاني الرائد براونز Browns الذي يقوم مقام مختبر لترجمة تقنية فارفيتش في العالم الواقعي. في مقابل الابتكارات كلها التي تحققت رقميًا، رأى نيفيس أن حالة ركود أصابت التجارة التقليدية. وفي هذا يقول: "لا تزال المتاجر تتبع أسلوب العمل نفسه كما لو أننا في تسعينيات القرن الفائت"، مضيفًا: "إننا لا ندرك حقيقة رحلة الزبون. لا وجود لمنظور شامل." لذا انطلق نيفيس بنفسه إلى استحداث هذا المنظور.
في عام 2017، دعت فارفيتش 200 مدير تنفيذي لكبرى العلامات في قطاع الأزياء إلى حفل لعرض مجموعة تقنية أطلقت عليها اسم Store of the Future "متجر المستقبل". قدم نيفيس رؤيته للبيع بالتجزئة على أرض الواقع مدعّمة بالرؤى المتبصرة في عالم التجارة الرقمية، مستعرضًا تقنيات تفاوتت بين رف لتعليق الملابس يرصد المنتجات التي يلمسها الزبون في أثناء تصفحه المعروضات، ومرآة في غرفة قياس الملابس تتيح للزبون طلب القطع بمقاسات أو ألوان مختلفة. يقول نيفيس موضحًا: "إن الفصل بين البيع بالتجزئة في متجر حقيقي وبين البيع عبر الإنترنت ليس سوى وهم. إنهما منفصلان فقط لأن الشركات لم تمتلك التقنية والاستراتيجية لتوحيدهما حقيقة. أرى شخصيًا أن هذه هي الجبهة المقبلة."
حظي عرض نيفيس باستحسان كبار المديرين في شانيل، فتفاوضوا معه على الفوز بحصرية استخدام هذه التقنية لمدة سنتين واستثمروا في فارفيتش. صحيح أن دار شانيل ما فتئت تستخدم هذه التقنية في متاجرها، لكن الحصرية سقطت عنها في شهر سبتمبر أيلول الفائت، وتبيّن أن هذا النظام يشكل سلعة رائجة.
باتت العلامات تتوجه بشكل متزايد إلى نيفيس بحثًا عن الإجابات بعد أن كان هو من يرجوها سابقًا أن تبيع منتجاتها عبر منصة فارفيتش. لا شك في أنه يتمتع بعلو الكعب في ما يتعلق بإدراك واقع البيع بالتجزئة في المتاجر وعلى شبكة الإنترنت. لكن ما يجعل منه عنصرًا ثابتًا متفردًا في هذا القطاع هو قدراته الحديثة على غزو أعلى مستويات التجارة الإلكترونية الصينية. تظهر تقارير شركة باين آند كومباني Bain & Company أن ما نسبته 33% من مبيعات المنتجات الفاخرة في سنة 2019 يُعزى إلى المستهلكين الصينيين. ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 45% في غضون خمسة أعوام. لكن أي شركة للبيع بالتجزئة في قطاع الأزياء لم تنجح في أن تشرع أبواب هذه السوق على شبكة الإنترنت، وذلك بسبب خصوصيات القوانين التشريعية الصينية والفروقات الدقيقة على مستوى عادات التسوق المحلية.
أحذية ستاديوم غودز الرياضية التي تلقى رواجا واسع النطاق.
في عام 2019، أطلقت مجموعة Net-a-Porter قناة على موقع Tmall التابع لشركة علي بابا والمخصص للمنتجات الفاخرة. وفيما لم تكشف الشركة عن أي تفاصيل حول أداء الموقع الصيني خصوصًا، تقلصت هوامش الربح لدى مجموعة Yoox Net-a-Porter ، وتراجع إجمالي حجم أعمال مجموعة ريشمون في آسيا. عند مناقشة صفقة فارفيتش الجديدة مع المساهمين، تهرّب يوهان روبرت، رئيس مجموعة ريشمون، من الإجابة عن أسئلة حول تأثير ذلك على عمليات Yoox Net-a-Porter. لكنه أعاد بدلاً من ذلك تأكيد المناشدة التي تقدم بها سنة 2015 إلى مجموعتي إل في إم إتش وكيرينغ داعيًا إياهما للانضمام إلى منصة حيادية للبيع. قال لهما آنذاك: "إن التجارية الإلكترونية لعبة كبيرة جدًا ولست واثقاً من مقدرة أي شركة فردية للمنتجات الفاخرة، بغض النظر عن حجمها، على النجاح وحدها." لكن التماسه لم يلقَ آنذاك آذانًا صاغية على ما يقول.
أما بوسكيتس، التي كانت شريكة لروبرت في مجموعة Net-a-Porter قبل أن تتخلص من آخر أسهمها فيها سنة 2015، فتستعيد ذكرى مختلفة لما جرى من الأمور وتقول: "الحقيقة هي أن الأفراد المحيطين بروبرت كانوا لا يفهمون التجارة الإلكترونية، أو الأزياء، أو النساء. أعلم ذلك لأننا كنا طيلة ثماني سنوات شريكين متساويين ونمتلك الحقوق نفسها." رفض روبرت طلبات إجراء مقابلة معه.
في السنة نفسها التي تحررت فيها بوسكيتس نهائيًا من استثمارها في Net-a-Porter، عمدت ريشمون إلى دمج هذه المجموعة مع مجموعة Yoox الإيطالية للبيع بالتجزئة عبر الإنترنت. عبّرت بوسكيتس عن رفضها هذا الدمج، والسبب في ذلك هو أنها كانت ترى في فارفيتش خيارًا أفضل لمثل هذه العملية. تقول بوسكيتس: "أقر يوهان نفسه بأن ريشمون لم تكن خبيرة بالإنترنت، وثبت بمرور الوقت أنه كان يجدر به الإصغاء." في المقابل، أثنت بوسكيتس على الصفقة الجديدة ورأت فيها مؤشرًا على التقدم الكبير الذي أحرزه روبرت ومعه مجموعة ريشمون في ما يتعلق بحكمهما على الجبهة الرقمية.
خلال الاتصال مع المستثمرين، أشار روبرت إلى أن الصفقة الجديدة مع فارفيتش حملت قوة إلى ما ثبت أنه يشكل نطاقًا محجوبًا لدى ريشمون، أي التقنية. وعند مقارنة مؤسسته بفارفيتش، استعار روبرت بطبيعة الحال جملة زميله الجديد، فقال: "لكل شركة حاليًا فصيلة دم مختلفة على ما يقول نيفيس." لا شك في أن الشراكة تمنح ريشمون بعدًا رقميًا، لكن السؤال الأهم هو: كيف يُترجم ذلك على مستوى الأعمال في سوق سريع النمو؟ فحتى مغامرات فارفيتش السابقة في العالم الصيني للتجارة الإلكترونية لم ترقَ بأدائها إلى المستوى المتوقع على ما أقرّ نيفيس. لكن الشراكة مع علي بابا كفيلة بتغيير قواعد اللعبة.
إذ يشير نيفيس إلى هيمنة شركة علي بابا على التجارة الإلكترونية الصينية عمومًا، وتفوق فارفيتش في مجال المنتجات الفاخرة خصوصًا، يقول: "إنها شراكة تحوّلية في العمق. فهذا المزيج يُعد مجزيًا للجميع، للعلامات التجارية، والمستهلكين، والمتاجر في مختلف أنحاء العالم."
حذاء خفيف من علامة G. H. Bass متوافر على موقع براونز الإلكتروني.
الرؤية المتبصرة
انبثقت الشراكة عن رغبة مشتركة بسد الفجوة بين التسوق عبر الإنترنت والتسوق في المتاجر. وما حققته فارفيتش مع متاجر الأزياء في مختلف أنحاء العالم حققته شركة علي بابا مع متاجر السلع على امتداد أرجاء الصين. لذا فإن دمج القدرات الفكرية للشركتين قد يخلّف انعكاسات عالمية ويُعدّ الأرضية لأول مجموعة كبرى للبيع بالتجزئة في قطاع المنتجات الفاخرة. وفيما تقتضي الخطوة الأولى في استراتيجيتهما استقطاب علامات رائدة إلى الشبكة العنكبوتية الصينية بدءًا من النصف الأول من عام 2021، فإن الغاية العظمى تتمثّل بتوفير التقنية التي تقف وراء كل عملية شراء لمنتج فاخر، سواء في المتجر أو عبر الإنترنت.
تضاعف العام الفائت الحجم العالمي للمبيعات عبر الإنترنت بسبب القيود التي فرضتها جائحة كورونا على نطاق واسع. لكن هذه المبيعات لا تشكل إلى الآن سوى 23% من إجمالي عمليات شراء المنتجات الفاخرة في العالم على ما تقوله شركة باين، الأمر الذي يُفسح في المجال على نحو ملحوظ أمام فارفيتش لتوسيع نطاق نفوذها. وفي هذا السياق، لا يعود هذا التحالف مرتبطًا بالتجارة الإلكترونية الصينية فحسب، بل بالتسوّق.
فيما كان روبرت يناقش دعمه لنيفيس، صرّح لصحيفة ذا نيويورك تايمز قائلاً: "إما أن تكون أنت من يهز القواعد أو أن تكون عرضة لجهة تهز قواعدك، وأنا أكره أن أكون في هذا الوضع الأخير. إننا ننظر إلى هذه الصفقة من حيث كونها تمثّل القبول بأسلوب جديد للبيع بالتجزئة."
أما فرانسوا – هنري بينو، فقال: "يعكس الاستثمار من قبل شركة أرتيميس قناعتنا بمستقبل فارفيتش، وإني شخصيًا أتطلع إلى استكشاف مستقبل البيع بالتجزئة في قطاع المنتجات الفاخرة مع هذه المجموعة من الخبراء وأصحاب الرؤى المتبصرة."
Add image credit here
عمل تركيبي من حفل إطلاق ذا ستور أوف ذا فيوتشر.
إذ تنخرط في المشروع عمليًا اثنتان من الشركات العملاقة في هذا القطاع، وتقرّان بأن مستقبل التسوق في يد نيفيس، نسأله عمّا إذا كان التغير في المواقف على هذا النحو يستثير فيه على الأرجح الشعور بالرضا. يعترف بنبرة ملؤها التواضع "أنه تحول كبير". لكن الإلحاح عليه للاستطراد حول هذا الموضوع يبقى عقيمًا. فرباطة جأشه راسخة في السراء كما في الضراء. وفيما يستعيد نيفيس ذكرى اليوم الذي هبطت فيه قيمة أسهم فارفيتش إلى النصف تقريبًا، يقول: "عندما يرتفع سعر الأسهم ويبدأ أعضاء فريقنا بالاحتفال، أطلب منهم التروي. أعتمد النهج نفسه عندما تتراجع قيمة الأسهم." بدلاً من ذلك، يركّز نيفيس على الهدف طويل الأمد، وفي هذا يقول: "لطالما أردت أن أكون الشريك في الابتكار في هذا القطاع. يجدر بنا أن نحترم المساهمين في شركتنا، ونشرح استراتيجيتنا التي قد يحدث أحيانًا أن تكون عصية على الفهم. لكن لا بأس في ذلك. علينا أن نتعايش مع الوضع ونتقبله، ونتقبّل العِبر التي يحاولون تبيانها لنا. لكن هذا لن يغير من مهمة الشركة. في نهاية المطاف، ليس سعر الأسهم هو ما يحدد إذا ما كانت خطواتنا صائبة أم خاطئة."
يتذكر سوزا أيامهما المبكرة سوية ويقول إن نيفيس "يبقى ثوريًا على ما كان حاله آنذاك، لكنه بات يتحلى بقدر أكبر من الحكمة، والسكينة، وبعد النظر". قد تكون قدما نيفيس، الرجل الهادئ والمتميز ذو النظرة الثاقبة، ثابتة على الأرض، لكنه يتطلع بحزم إلى تغيير المستقبل.