يتكبد قطاع المنتجات الفاخرة خسائر بالمليارات سنويا بسبب المنتجات الزائفة.

لكن الصناع يتصدون اليوم لهذه الظاهرة باستخدام تقنيات جذرية.

 

فوق سفح هضبة نائية في منغوليا، يتردد عن بعد رنين أجراس يؤشر إلى وجود قطيع من الماعز المنتج للكشمير على مقربة من المكان. كانت امرأة تقتفي مصدر الضجيج فيما تتفحص الأرض الصخرية بتأنٍ وقد تأبطت حاوية معدنية صغيرة. وما هي إلا دقائق حتى انحنت المرأة وراحت ترشّ أسفل بطن كل حيوان بمحتوى الحاوية دون أن تخلّف أي أثر. بل إنها لم تترك أي دليل على مرورها في تلك البقعة.

وبعد انقضاء بضعة أشهر على جولتها تلك، كانت موظفة من قسم المبيعات، في متجر يقع في شارع روديو درايف في بيفرلي هيلز، تمرر كنزة محبوكة من الكشمير فوق آلة مسح متصلة بصندوق تسجيل المبيعات. يعرض الصندوق تاريخ وسم الكشمير في ذاك الصباح وموقعه في منغوليا، فضلاً عن اسم المصنع الذي تولى معالجة النسيج الصوفي وتاريخ وصول الكنزة إلى سوق الولايات المتحدة الأمريكية.  وفيما اقترحت الموظفة عرض فيلم مصور عن مصدر الكنزة الأصلي في ذاك السفح الجبلي، أوضحت قائلة: «إننا نستخدم الحمض النووي الاصطناعي لضمان مصدر القطعة وجودتها». 

 

"يرتكز نظام مكافحة المنتجات الزائفة الجديد من شركة إنتروبي بصورة كاملة على الذكاء الاصطناعي،

وذلك باعتماد جهاز صغير وسهل الاستخدام."

 

قد تُعد هذه التقنية سابقة لأوانها، لكن التجارب على هذه العملية، التي تقتضي وسم المواد الخام فائقة الجودة، عند مصدرها، بمادة تعقب خفية لا يمكن محوها، قد باتت سارية. وما هذه التقنية إلا واحدة من الطرائق المتطورة تقنيًا التي يستخدمها قطاع المنتجات الفاخرة بغية التصدي لظاهرة السلع الزائفة التي تشهد تناميًا متزايدًا. 

لا ينفك التزييف يشكل إحدى وسائل مخالفة القانون الأكثر إدرارًا للربح في العالم. يبلغ الربح المحقق سنويًا نحو 500 مليار دولار بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تتخذ من باريس مقرًا لها. ويُتوقع أن يشهد هذا المبلغ ارتفاعًا هائلاً ليعادل 2.3 تريليون دولار بحلول عام 2022. فضلاً عن ذلك، تعتقد منظمة الجمارك العالمية اعتقادًا راسخًا بأن %7 من التجارة العالمية ترتكز على المنتجات الزائفة. وتُعد هذه الطفرة، في جزء كبير منها، إحدى تبعات الأزمة الاقتصادية التي طرأت في عام 2008 عندما اضطر كثير من المستهلكين ذوي التوق الشديد للمنتجات الفاخرة إلى التقشف. وشملت قائمة هؤلاء الأمريكيين الحذرين والروس الأثرياء الذين شهدوا انهيار قدرتهم الشرائية بسبب تدهور عملتهم. 

 

وفّر هذا الواقع ظروفًا مثاليًا أفادت منها سوق المنتجات الزائفة بموازاة تراجع موثوقية سلاسل التوريد. ففي الخارج، يفسح الإنتاج منخفض الكلفة وغير الخاضع لرقابة صارمة المجال أمام التسريبات ونوبات العمل الإضافية في المصانع نفسها. فضلاً عن ذلك، أتاح ازدهار التجارة الإلكترونية استحداث منصة جديدة لبيع تلك المنتجات الزائفة دون أي ضوابط في معظم الأحيان.

أنفقت العلامات التجارية للألبسة 6.15 مليار دولار في السنة الماضية على جهودٍ بذلتها في سبيل محاربة التزييف. أما القطاعات الأخرى، على غرار قطاع الفنون، فأنفقت مليارات إضافية للغاية نفسها. وخصص الصنّاع الجزء الأكبر من هذه الأموال لاستحداث طرائق حصيفة جديدة، على غرار التقنية العلمية التي استُخدمت في الكنزة المحبوكة من الكشمير، لحماية قيمة علاماتهم التجارية وطمأنة زبائنهم الأوفياء.

 

يُعزى تطوير التقنية العلمية المرتكزة إلى الحمض النووي إلى شركة Applied DNA Sciences التي تتخذ من ستوني بروك في نيويورك مقرًا لها، والقادرة، على ما تقول مايلين وان، نائب رئيس قسم بيع المنسوجات لدى الشركة، على تطبيق جزيئات الحمض النووي الاصطناعي على مختلف الأسطح تقريبًا.  تبتكر الشركة لكل زبون سلسلة متفردة تُحفَظ في قاعدة بياناتها وتُستخدم لاحقًا معيارًا مرجعيًا للتحقق من أي منتج. يقتضي النظام المعتمد حاليًا مسح أي منتج بوساطة ماسحة قطنية ثم تحليل تسلسل الحمض النووي للمحلول داخل آلة خاصة، أو دهنه بمحلول يجعله يتوهج باللون الأحمر في حال اشتماله على الحمض النووي الاصطناعي. لكن الشركة تهدف إلى تطوير أداة للمسح الفوري تقريبًا على غرار تلك المستخدمة في المتجر التقدمي الكائن في روديو درايف. 

 

غدت شركات الأزياء تستخدم الحمض النووي الاصطناعي لضمان مصدر المنتجات وجودتها، مثل التحقق من كون قطعة الكشمير مصدرها صوف الكشمير المأخوذ من ماعز منغوليا مثلاً.

غدت شركات الأزياء تستخدم الحمض النووي الاصطناعي لضمان مصدر المنتجات وجودتها، مثل
التحقق من كون قطعة الكشمير مصدرها صوف الكشمير المأخوذ من ماعز منغوليا مثلاً.

 

تقول وان إنه من المستحيل في الحقيقة إزالة الحمض النووي أو نقله أو استنساخه خارج مختبرات الشركة، وهذا ما خبرته بنفسها وزارة الدفاع الأمريكية التي تُعد زبونًا آخر لهذه الشركة. فقد حاول العلماء لدى الوزارة على مر أكثر من عام كامل إعادة هندسة الحمض النووي أو نقله إلى سطحٍ آخر، ولكنهم أخفقوا في مسعاهم. وتضيف وان قائلة إن الجدوى الهامة لاستخدام هذه التقنية في الشركات الناشطة في قطاع المنتجات الفاخرة تكمن في ضبط سلاسل التوريد والتحكم بها. 

 

فضلاً عن ذلك، تعمل شركات راقية عدة تستخدم نظام تعقب الحمض النووي على صون منتجاتها باستخدام طرائق تناظرية، على غرار تلك التي طورتها شركة OpSec Security، وهي شركة بريطانية تتوزع مكاتبها في مختلف أنحاء العالم. يقول بيل باترسون، نائب رئيس قسم التسويق العالمي في الشركة: «إننا جميعًا نجدُّ في البحث عن حل ناجع لمشكلة توثيق أصالة المنتجات، وإن الجمع بين التقنيات الفيزيائية والرقمية يجعلنا أقرب إلى تحقيق الهدف».  توفر شركة باترسون مجموعة من التقنيات شبه الخفية التي تساعد على ضمان قدر إضافي من الطمأنينة لأصالة المنتج، سواء في سلسلة التوريد أو في متاجر البيع بالتجزئة. تمعّن عن كثب في أي قطعة ملابس، كالمعطف الواقي من المطر مثلاً. قد تشتمل رقعة العناية بالمعطف، والملصقة به، على سلسلة أرقام قد تبدو عشوائية لكنها في الواقع تشكل رقمًا تسلسليًا. أو قد يشتمل المعطف على قطعة قماش حيكت في طياته بحيث لا يمكنك التخلص منها إلا إذا كنت تعلم أين يجدر بك البحث عنها لتحرر غرزاتها في الموقع الصحيح. 

 

ثمة وسيلة أخرى تتمثل في الخيط المجهري، وهو خيط رفيع جدًا مصنوع من النايلون أو البلاستيك يُحاك في قطعة الملابس ويتزين بصور أو عبارات لا يمكن رصدها إلا باستخدام عدسة مكبرة. قد يحمل الخيط شعار العلامة التجارية أو سمة أكثر إبداعية كعبارة مهينة مثل تلك التي اختارتها إحدى دور الأزياء الراقية للإشارة إلى أن أحدًا لا يحب المنتجات الزائفة سوى القراصنة والأشخاص الوضيعين.

لن تصبح مثل هذه التقنية بالطبع منزهة عن الشوائب والثغرات إلا إذا اعتُمدت معيارًا نموذجيًا في كامل قطاع المنتجات الفاخرة. ومن الضروري حتى ذلك الحين التحقق من أصالة المنتجات عبر كامل مستويات سلسلة التوريد وصولاً إلى القاعدة. أما الأداة الأحدث في هذا المجال، فتتمثل بالذكاء الاصطناعي أو التعلم الآلي. يرتكز نظام مكافحة المنتجات الزائفة الجديد من شركة إنتروبي Entrupy، التي تتخذ من نيويورك مقرًا لها، بصورة كاملة على الذكاء الاصطناعي، وذلك باعتماد جهاز صغير وسهل الاستخدام تولت مهمة استعراضه أمامنا دفين باترسبي، رئيسة قسم دعم الزبائن لدى شركة إنتروبي. 

 

تدمج دار ستيفانو ريتشي شرائح تحديد الأصالة باستخدام الترددات اللاسلكية في تصاميمها بما يتيح لها مراقبة مخزونها.

تدمج دار ستيفانو ريتشي شرائح تحديد الأصالة باستخدام الترددات اللاسلكية في تصاميمها بما يتيح لها مراقبة مخزونها.

 

يتألف جهاز إنتروبي من عدسة مكبرة ثبُتت إلى الجزء الخلفي من هاتف ذكي واقترنت بتطبيقٍ خاص بها. ثبتت باترسبي الجهاز إلى حامل يدوي ثم مررته فوق حقيبتين بدتا متطابقتين. حثها التطبيق على التقاط صور عدة للحقيبتين من زوايا مختلفة، ومنها تصوير شعار العلامة التجارية والبطانة القماشية، والغرزات الخارجية وما شابه ذلك.  نقرت باترسبي موضع رفع الصور، لكن النتائج جاءت مغايرة بالنسبة إلى الحقيبتين. فبعد بضع ثوان، إما يُصنف المنتج أصيلاً من خلال علامة تأشير، أو تظهر علامة تؤشر إلى كونه «غير معروف»، وهذا مصطلح تستخدمه شركة إنتروبي كتعبير ملطف لتوصيف المنتج الزائف. 

صُمم هذا النظام ببراعة. فتلك الصور التي التقطتها باترسبي حُملت إلى قاعدة البيانات الأساسية الخاصة بشركة إنتروبي بحجم مكبر بمقدار 260 مرة مقارنةً بالحجم الذي يُرى بالعين المجردة. تولّت بعد ذلك الخوارزميات الخاصة بالشركة مقارنة الصور بسجلها الخاص الذي يضم أكثر من 50 مليون صورة لنحو 60 ألف منتج فريد يرجع ابتكارها إلى ثمانين سنة خلت، ليصدر الحكم بعدئذ بصورة فورية تقريبًا.

 

يُضاف إلى ذلك أن أداء نظام الذكاء الاصطناعي يشهد تحسنًا متزايدًا في ظل ازدياد عدد الزبائن ومقدار البيانات. الواقع هو أن كل عملية مسح تزيد هذا النظام زخمًا. فعندما قامت الشركة بتجربة هذا النظام للمرة الأولى منذ سنتين، بلغت دقته نسبةً تقارب %94. أما اليوم، فيقول فيديوث سرينيفاسان، المؤسس المشارك في إنتروبي إن هذه النسبة تبلغ 99.1 %. يثق سرينيفاسان أشد الثقة بنظام إنتروبي حد أن الشركة تقدم ضمانة لاسترجاع الأموال.وفي ذلك يقول: «ثمة مسار ينبغي اتباعه في هذه الحالة. وإذا تبين في النهاية أننا على خطأ، فإننا سنستعيد الجهاز بكل سرور ونعيد إليكم الأموال التي تكبدتموها». لم يُسجل حتى الآن، وعلى مر تاريخ الشركة، سوى 20 حادثًا من هذا النوع، وهذا رقم ضئيل إذا ما قارناه بنحو 70 مليون دولار تشكل قيمة السلع التي نجح النظام في إثبات أصالتها. 

 

يستأجر اليوم أكثر من 300 زبون الجهاز بقيمة 299 دولارًا، فيما تبدأ كلفة خدمة الاشتراك الشهرية من 99 دولارًا. وتشمل قائمة هؤلاء الزبائن متاجر بيع البضائع المستعملة نيابة عن أصحابها، فضلاً عن تجار المنتجات الفاخرة المستعملة عبر شبكة الإنترنت الذين يمثلون قطاعًا مزدهرًا يضم مواقع مثل RealReal وMaterial World. وعلى الرغم من أن شركة إنتروبي ركزت في انطلاقتها على الحقائب، إذ إن المنتجات الزائفة ضمن هذه الفئة هي الأكثر شيوعًا، إلا أنها ستوسع نطاق نشاطها قريبًا ليشمل الأحذية العادية والأحذية الرياضية الفاخرة. لكن من الصعب أن تعمل التقنية التي تعتمدها هذه الشركة على أسطح عاكسة إلى حد كبير ولا قوام محددًا لها، ما يعني أنه لا يمكن تطبيقها على الألماس أو الزجاج أو الخزف الصيني. أما التحقق من أصالة الساعات، فيتطلب مقاربةً مختلفةً تمامًا على ما يوضح سايمون ستيرن من شركة فينتدج كاليبر Vintage Caliber، وهي مقاربة تقتضي في بعض الأحيان استخدام عداد غايغر.

 

يُظهر ستيرن، بوصفه واحدًا من أهم تجار الساعات المستعملة في أوروبا، دقة بالغة في محاولة ضبط القطع الزائفة. فالساعات الوضاءة القديمة تشتمل على مقدار ضئيل من مادة الراديوم التي تجعلها تتوهج بالضوء، لكن هذه الممارسة حُظرت منذ زمن بعيد لدواعي السلامة. لذا يستخدم ستيرن هذا الحظر في الفحص الأولي للساعة. يؤكد تمرير عداد غايغر نموذجي فوق ساعةٍ يُزعم أنها تعود إلى ما قبل ستينيات القرن الفائت إذا ما كانت تشتمل على مادة إشعاعية صار استخدامها في صناعة الساعات محظورًا بعد ذاك التاريخ.

تقتضي تقنية أخرى توجيه ضوء الأشعة فوق البنفسجية إلى ميناء الساعة داخل غرفة مظلمة. فالراديوم ليس عنصرًا مستدامًا فحسب، بل إن له أيضًا تأثيرًا عدوانيًا إذ يتسبب بمرور السنين في تحلل مركبات الكبريتيد الباعثة للوهج داخل الساعة، فتخبو قدرة الساعات على الإضاءة كلما تقدم بها الزمن. يقول ستيرن موضحًا: «ينبغي أن يكون الوهج تفاعليًا جدًا وأن يخبو على الفور. أما إذا بقي ميناء الساعة وضاء لبضع دقائق، فإن في ذلك إشارة واضحة إلى أن الساعة قد أخضعت للترميم أو أنها نسخة زائفة فحسب». 

 

نسخة زائفة من أحد أعمال روثكو، من ضمن معرض Treasures on Trial: The Art and Science of Detecting Fakes في متحف وينترثور في ويلمينغتون بديلاوير.

نسخة زائفة من أحد أعمال روثكو، من ضمن معرض
Treasures on Trial: The Art and Science of Detecting Fakes
في متحف وينترثور في ويلمينغتون بديلاوير.

 

عندما يساور الشك ستيرن فيما يتعلق بالساعات غير الوضاءة، يظل بمقدوره اللجوء إلى تحليل طيفي لا يسبب التلف ويتيح تفكيك المحتوى الكيميائي للمركب المعدني المستخدم في ساعة معينة أو مركب الطلاء الذي صُقل به ميناؤها. فكل دار مصنعة للساعات تستخدم مواد خاصة بها طبعًا، ويمكن من ثم التحقق من المواد المكونة لأي ساعة عبر مقارنتها بنموذج ثبتت أصالته. الواقع هو أن صنّاع الساعات يبدون حرصًا بالغًا لإحباط أي محاولة مستقبلية للتزييف لدرجة أنهم قد شرعوا يغيرون المواد الخام التي يستخدمونها. نشهد اليوم مثلاً شيوع مركب التانتاليوم والتنجستين المعدني غير التقليدي الذي يصعب الحصول عليه ويفرض تشكيله صعوبات جمة في ظل غياب الخبرة اللازمة لذلك. كما أن استنساخ ساعات هوبلو المصنوعة في علب من السيراميك وألياف الكربون قد يكون ممكنًا مثلاً، لكن كلفته المرتفعة جدًا لن تكون مجدية لمزيفي الساعات. 

 

في المقابل، تُعد الأرباح غير المتوقعة التي يمكن تحقيقها من بيع عمل فني زائف ضخمة بما يكفي لتبرير عمليات التزييف المضنية. ولا غرابة من ثم في أن يندرج عالم الفن ضمن المجالات الأكثر عرضة لعمليات التزييف في قطاع المنتجات الفاخرة. تأمل مثلاً في حادثة تدهور صالة نودلر Knoedler  الفنية الشهيرة في نيويورك بعد 165 عامًا من تاريخ تأسيسها. فقد أغلقت الصالة أبوابها سنة 2011 في خضم مواجهتها سيلاً من الدعاوى القضائية جراء بيعها، عن معرفة مسبقة أو عن غير قصد، نسخًا زائفة من أعمال روثكو وجاكسون بولوك لقاء ملايين الدولارات. لم تنكشف عملية الاحتيال هذه، التي بلغت القيمة المحققة بسببها 80 مليون دولار، والتي تعد الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إلا بسبب التحريات التي قام بها جايمي مارتن، خبير الكشف عن الأعمال الفنية الزائفة. عندما أوكلت إلى مارتن مهمة التحقق من إحدى لوحات بولوك المكتشفة حديثًا وأشادت بها صالة نودلر بوصفها أصيلة، استخدم جهاز التصوير المجهري ثلاثي الأبعاد لرصد التوقيع المرسوم بوساطة إبرة. 

 

فضلاً عن ذلك، اشتمل الطلاء فوق القماش على الصباغ الأحمر Red 170 الذي لم يتوافر على نطاق واسع إلا بعد مرور سنوات على وفاة بولوك في حادث سيارة. وعلى ضوء هذا الاكتشاف، اكتسب مارتن بسبب خبرته دورًا جديدًا، إذ عُين مدير قسم البحث العلمي لدى دار سوذبيز. كان يجدر بنودلر أن تبادر، عوضًا عن الوثوق في الخبرة فقط، إلى توظيف مارتن قبل أن يقوم أحد زبائنها المستائين بذلك. في نهاية المطاف، إذا كانت الإحالة مسارًا بشريًا ليس إلا، فإنها ستكون هشة أمام حدود إمكاناتنا. وفي هذا المجال تحديدًا، تؤمن شركة أرتندكس Artendex بأن لديها الجواب الشافي. 

 

تُعد أرتندكس شركة ناشئة أخرى تعتمد على الذكاء الاصطناعي. وقد تعاونت هذه الشركة مع محترف ترميم اللوحات والأبحاث حولها، الذي يتخذ من هولندا مقرًا له، في سياق مشروع قاده الأستاذ والخبير في الذكاء الاصطناعي أحمد الجمّال. يقول الجمّال إن التحدي لا يقتصر على عدم موثوقية المعرفة البشرية فحسب، بل في واقع أن عيبًا مشتركًا كان يشوب التقنيات التي استخدمها مارتن. ويضيف الجمّال موضحًا: «إن التقنيات المختلفة لرصد التزييف في مجال إسناد الأعمال الفنية لأصحابها ترتكز كلها إلى السمات الفيزيائية للعمل الفني، أي قماش اللوحة، والصباغ، والتحليل الكيميائي باستخدام الأشعة السينية». لكن لم لا يُصار عوضًا عن ذلك إلى النظر في ضربات الريشة فوق قماش اللوحة بوصفها سمة يتفرد بها الفنان، شأنها في ذلك شأن توقيعه الخاص؟

 

" تعد الأرباح غير المتوقعة التي يمكن تحقيقها من بيع عمل

فني زائف ضخمة بما يكفي لتبرير عمليات التزييف المضنية." 

 

ساعد الجمّال على تطوير خوارزمية تتيح ذلك. بدأ النظام أولاً بمسح 300 رسم للخطوط التي أنجزها أمثال بيكاسو، وماتيس، وشيلي قبل أن تزحف شبكة من الخطوط الحيادية المتكررة فوق هذه المسوحات نفسها للتعرف إلى ما يميز ضربات ريشة كل فنان. اختبر فريق العمل النظام بعد ذلك باستخدام صور كان يدرك مسبقًا أن بعضها أصيل وبعضها زائف. في مرحلة التجارب الأولية، حقق نظام الذكاء الاصطناعي من أرتندكس معدل دقة بلغت نسبته %85.

وإذ تسعى الشركة اليوم إلى التسويق لهذه الخدمة تجاريًا، يعمل الجمّال على تحسين جودة تحليل الرسومات عن طريق الاستعانة بشركاء من العالم الفني يزودونه بعينات إضافية تُضاف إلى قاعدة البيانات الرئيسة. ويسعى الجمّال أيضًا إلى توسيع نطاق مشروعه ليشمل مجالات أخرى كاللوحات الكاملة. لكن الأستاذ يقر بأن هذه المهمة ضخمة للغاية، ما يجعل المضي فيها معقدًا. يقول الجمّال موضحًا: «السبب هو أن ضربات الفرشاة قد لا تكون ظاهرة بالضرورة. فالأمر رهن بالحركة الفنية. في لوحات الفن الانطباعي مثلاً، يمكن للمرء أن يرى هذه الضربات بكثير من الوضوح. لكننا لا نكاد نستطيع رؤيتها في أعمال كبار قدامى الرسامين».

 

ليت جدران الصالات الفنية تلك كانت قادرة على الخروج عن صمتها. ربما كان ذلك ممكنًا لو أن شرائح تحديد أصالة الأعمال الفنية باستخدام الترددات اللاسلكية (RFID) والاتصالات قريبة المدى (NFC) كانت موجودة منذ مئات السنين. يمكن دمج هذه الشرائح المجهرية بسرية تامة في أي غرض تقريبًا، ثم استخدامها لأغراض التعقب والمراقبة. إن بعض الشركات التي بادرت إلى اعتماد هذه الشرائح في مرحلة مبكرة، على غرار علامات أزياء مثل مونكلير وفيراغامو، وخصوصًا بربري، كانت قد وضعتها قيد الاختبار على مر سنوات عدة.

 

عندما افتتحت بربري قبل ست سنوات متجرها الرئيس والباذخ التصميم في لندن، كان بإمكان الزبائن تمرير قطع الملابس المزودة بشرائح تحديد الأصالة باستخدام الترددات اللاسلكية أمام شاشات لمعرفة مزيد عن طرائق صنعها. 

 

أما علامة ستيفانو ريتشي، فارتقت بهذه التقنية إلى مستويات جديدة، إذ شرعت منذ أربع سنوات تدمج شرائح تحديد الأصالة باستخدام الترددات اللاسلكية في تصاميمها الأساسية، وخصوصًا في المنتجات الجلدية. وعن هذا يقول نيكولو ريتشي، الرئيس التنفيذي للدار: «أثبتت هذه التقنية نجاحها الباهر إذ أسهمت في تسريع المسار اللوجستي وجعلته آمنًا ودقيقًا أكثر من ذي قبل بما أننا بتنا قادرين على مراقبة المخزون».  انتقلت دار ستيفانو ريتشي مؤخرًا إلى إضافة شرائح الاتصالات قريبة المدى، أي إلى التقنية نفسها التي تستخدمها شركات مثل  Apple Pay. يمكن قراءة هذه الشرائح باستخدام أي هاتف ذكي. يكفي أن يمرر المرء الهاتف أمام أي منتج ممهور باسم علامة ستيفانو ريتشي وأن يستخدم التطبيق المناسب للتأكد على الفور من أصالة هذا المنتج.