تزيد المرأة عند الفنان عن كونها تجسيدا للجمال وتجلياته إلى كونها رمزا أوسع.

 

يخصص الفنان العراقي فاروق حسن غالبية لوحاته لموضوع المرأة، ولكنه في الوقت نفسه لا يتعامل مع الأنثى من حيث كونها موضوعًا جسديًا تشخيصيًا بحتًا، وإنما من حيث كونها فكرة جمالية وبلاغية خالصة تعبر عن الحياة، والوجود، والكون.

فالشخصية الرمزية التي يخطُّها الفنان تتشكل عبر مجموعة من الكتل والفراغات المتنوعة من مواد مختلفة لتمثل الإطار الجمالي الذي يتكون من القماش، وأوراق الجدران، والأحبار، والألوان الزيتية، والباستيل والأكريلك، والكولاج التي تمنح سطح العمل حساسية وملمسًا مختلفًا، وتضيف إليه عنصر الظل والنور عبر المستويات التي توفرها الخامات بتنافراتها وكثافة سطوحها.

 

 وجوه، ألوان أكريلك، كولاج مواد مختلفة، 100x120 سم، 2012.

وجوه، ألوان أكريلك، كولاج مواد مختلفة، 100x120 سم، 2012.

 

إن البحث عن تقنيات وتجارب جديدة، والبحث عن الجمال هو الذي قاد الفنان لرسم المرأة دون أن يتقصد ذلك، وعبر تجواله في تضاريس اللوحة التشخيصة كانت تبرز صورة المرأة نموذجًا للجمال والتي غدت أسلوبًا مميزًا له منذ عقود، ولم يبتعد في ذلك عن أسلوبه القديم الذي كان ينتهج فيه الرواد رسم الوجوه الريفية وحياة القرى.

 

يقول د. عاصم فرمان إن تجربة الفنان جاءت «من رحم مدينة البصرة بفعل نبعين مهمين، هما الأم والمكان. فالأولى بحضورها الإنساني وحكاياتها الشفاهية الشعبية المروية التي اتسمت بمخيلة الذاكرة الجمعية المتوارثة، ونحت الدمى التي أجادت صناعتها وحاول الابن تقليدها، والأخرى إطلالة بيته القديم على ضفة النهر على امتداد فضاء واسع للحقول وبساتين النخيل وتأملاته التي شكَّلت وعيه الأول.

 

 المرأة والعصفور، زيت على القماش، مواد مختلفة 80x100 سم، 2017.

المرأة والعصفور، زيت على القماش، مواد مختلفة 80x100 سم، 2017.

 

المرأة الحالمة

من هنا، فالفنان يرسم المرأة غير المتعينة في الغالب بلا ملامح للوجه، لأنه يصور الحالة الإنسانية التي تغرق في الحلم أو التأمل، والتي توفر لدى المتلقي فرصة التأويل للحالة الإنسانية التي يكسرها الرسام بالكتل التجريدية التزينية التي تحيط بالجسد الأنثوي الذي يفيض بجماله على الأشياء، ويعوض فكرة غياب التفاصيل في الملمح الإنساني.

لم يكن الموضوع الجمالي وحده الذي شده لاختيار المرأة عنوانًا لأعماله، وإنما البحث عن رمز يمكن أن يختزل عددًا من القضايا التي تتصل بالمجتمع والحياة والتاريخ، فكانت المرأة.

 

يقول الفنان فاروق حسن، الذي اقتنيت أعماله في المتحف الوطني للفن العراقي الحديث، إن «المرأة كانت وعاء لمواضيع مختلفة ترمز للحياة والحب والولادة، وأسعى من خلال ذلك إلى تخطي التشخيص المباشر. لا أرسم المرأة كشكل معين يخص الأنثى وإن كان الشكل جميلاً، وإنما اللوحة هي وسيلة لبناء جملة من المواضيع لا تخص المرأة وحدها، لكن المرأة هي رمز وجوهر لوحاتي»، مستدركا أن الفكرة «بدأت في التسعينيات من القرن الماضي كنوع من التجريب في استعمال المواد المختلفة.»

 

انتظار، زيت على القماش، مواد مختلة، 52x52 سم، 2012.

انتظار، زيت على القماش، مواد مختلة، 52x52 سم، 2012.

 

تناغم اللون

في اختيار الفنان للخامات المختلفة بحث عن العلاقة التي تتجلى بين اللون والتكنيك بنوع من التناغم الذي يربط اللون والكتل المختلفة بانسجام، كما تقول الناقدة العراقية هيفاء الحبيب: «المهارة في التكنيك اللوني يفتح عددًا من الخيارات للإبداع التي ينفذها الفنان بوعي وإحساس وشفافية.»

لإغناء اللوحة التي يغيب عنها التجسيم لجأ الفنان إلى التلوينية التي توازن بين الألوان الحارة والباردة بروح شرقية ضمن درجات الألوان الترابية، والزرقاء، والحمراء، والبرتقالية، مركِّزًا على الألوان التي تمتاز بشفافية التأثير وحساسيتها الانفعالية للمتلقي.

يقول الفنان فاروق حسن إنه «تعلَّم إمكانية التلوين من الموروث العراقي والإسلامي بما يمتازان من حساسية وتفاصيل ودفء.»

 

يحشد الفنان سطع اللوحة بعدد من الإشارات الرمزية، والحروف، والأرقام المتشابكة التي تحوِّل المشهد إلى كتلة ثرية متداخلة، ونص سردي يخاطب خبرات المشاهد بمرجعيات تلك الرموز ودلالتها، فضلاً عن أسلوب التنقيط، والتعجيق، والتحزيز، والنافر الذي يوحي بالبعد النحتي الذي يمنح العمل مهابة الحجر وقوته.

إن الفكرة التي يركز عليها الفنان المولود في البصرة عام 1939، هي الحرية التي تتيح للوحة فضاء غير محدد توفرها الخامات التي تستطيع استيعاب كل شيء، ومنها الرموز، والحروف، والأرقام، واللغات الأخرى، دون أن يلتفت إلى دلالة المفردات التي ينظر إليها بوصفها مشاهدات بصرية تمنح العمل استيعاب فكرة التعدد.

ولا يميل الفنان إلى منح اللوحات أسماء، لأنه يرى أن عنوان اللوحة يقود تفكير المتلقي إلى فكرة مغلقة تحدُّ من حرية المتخيل والمتأمل.

 

ضمن اشتغالات الفنان فاروق حسن الجمالية والبحثية في تجربته التي امتدت على مدار ستين عامًا، فقد التفت إلى تصوير الطفولة بوصفها موضوعًا للبراءة والنقاء التي يقول إنها «تمثل حلم العودة إليها في ظل قسوة الحاضر»، مضيفًا «لقد روعتني الأحداث التي جرت في العراق بعد 2003، من قتل عشوائي ودمار دون تمييز لطفل أو شيخ، فبدأت عام 2005 برسم لوحات تعبر عن الطفولة كرمز، وتعبر عما يجري في هذه المرحلة مستخدمًا دمى الأطفال لما تمثله من البراءة. ولكن الطفل لم يعش طفولته الحقة، وهذا ما عبرت عنه بالوجوه التي تعاني الفزع والذعر، وهنا استعملت الكثافة اللونية والمواد المختلفة  الثقيلة مع الحفاظ على بعض الشفافية التي تعبر عن الرقة والأمل بالمستقبل.»

 

لم يحصر الفنان موهبته في إطار اللوحة، بل انتقل إلى جدران المسرح، وصمم عشرات الديكورات لعدد من المسرحيات العراقية التي عمل فيها مع مخرجين من بينهم سامي عبدالحميد، ومحسن العزاوي، ووجدي العاني، وحصلت بعض تلك الأعمال على جوائز وحظيت بتقدير كبير من المشاهدين والنقاد.

 نساء، أكريلك، كولاج مواد مختلة، 80x100 سم، 2012.

نساء، أكريلك، كولاج مواد مختلة، 80x100 سم، 2012.

 

غنائية اللوحة

الفنان فاروق حسن الذي تخرج في معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1960 وحصل على شهادة أكاديمية الفنون بروما عام 1980، بالرغم من ذهابه في التجارب الأخيرة، وتحديدًا «تجليات ما بعد الغربة» الذي أقيم في عمان للحداثة إلا أنه يسعى في اللوحة للموازنة بين الغنائية العذبة للشكل من خلال إيقاع اللوحة وموسيقاها، والتعبير عن وجدانه الذي يظهر في الألوان الشرقية التي لا تخلو من الشجن، وموضوعات المرأة التي تحيل لحكايات «ألف ليلة وليلة» بسرديات لياليها التي تذكِّره ببغداد التي كان غادرها منذ سنوات ليستقر به المقام في أميركا.

 

يقول الفنان، وهو عضو نقابة وجمعية التشكيليين العراقيين، ومن عائلة فنية تجمع الخطاط، والشاعر، والممثل، والرسام، إن العراق «يحضر دون قصدية في اللون والخط والذكريات والمشاعر والتاريخ، وتظهر في اللوحة من اللاشعور الذي يستدعي الحكايات والأماكن والوجوه والشمس والماء بألوانها الشرقية.»

 

اللوحة عند الفنان، الذي أقام عشرات المعارض في العراق، وعمان، ولندن، وأريغون بالولايات المتحدة الأميركية، تقارب بين الأسطورة والشعر والحكاية السردية والمشهد المسرحي. فالفنان، الذي تأثر بأخيه الشاعر وقرينته المتخصصة في سينوغرافيا المسرح وعمله في الديكور، ينسج اللوحة عبر متواليات بصرية تشبَّع بها من الامتداد التاريخي للحضارات العراقية العميقة في التاريخ والمحيط الثقافي الذي عاشه الفنان بوساطة مدرسيه، الذين كان من بينهم: فائق حسن، وإسماعيل الشيخلي، وانفتاحه على التجارب في الغرب وأميركا التي أغنت مساحات اللوحة بنوع من الاشتغال الملحمي الذي ينشد «غايات الفن الكبرى» كما يقول الناقد حسن عبدالحميد.

 

 نساء من الشرق والغرب، ألوان أكريلك، كولاج مواد مختلفة وحروفيات، 100x120 سم، 2012.

نساء من الشرق والغرب، ألوان أكريلك، كولاج مواد مختلفة وحروفيات، 100x120 سم، 2012.

التقنية وروح العصر

مع التحولات الحديثة وانتشار التقنيات الحديثة و«الرقمنة»، أفاد الفنان الحاصل على عدد من الجوائز من إمكانيات الحاسوب وتقنياته في الطباعة والتصميم والتكبير بالقياسات التي يحتاج إليها حجم اللوحة، واختيار الألوان ومزجها بعد أن كان قبل ذلك يقوم بتلك العمليات يدويًا. وفي ذلك يقول: «أصمم عملي بالكمبيوتر، ولكنه لا يشكل أساس التكنيك والأسلوب الذي يمثل روحي.»، ويقول: «إن على الفنان ألا يركن لأسلوب أو تقنية، وإنما عليه مواكبة روح العصر وإلا توقف قلب الرسم لديه.»

 

يقول الناقد حسن عبدالحميد إن تجربة الفنان فاروق حسن «تستند إلى ذخيرة دراسية، وموهبة لم تتقيد بحدود الفن وثوابته بمنحاه وصرامته الأكاديمية إلا لتأكيد طاقتها التعبيرية ونزوع تفردها.»

ويقول الشاعر والفنان صادق الصائغ إن «عناصر لوحة فاروق الثابتة تعكس طباع الفنان الشخصية والميالة إلى الهدوء، وتجنب القفزات، وولدت لديه حسًّا بالاكتفاء، وجعلته وسيطًا بين الماضي والحاضر، معوضًا بالغنائية اللونية وحسن التركيب، وتناغم الكتل تحولات العصر واختلاف الزمان.»