نادرًا ما نوقشت الممارسات الخلقية في مجال صناعة الرفاهية، ولكننا رغم ذلك أصبحنا أكثر وعيًا بما ينبغي عندما يتعلق الأمر باختيار العلامات التجارية التي نتسوق منها، إذ أصبح الحديث حول مواضيع كالاستدامة والأخلاق نقاشًا لا ينقطع. ومن ثم فقد صار قطاع كبير من الزبائن غير مستعدين للتعامل مع العلامات التي ترفض أخذ الأمر على محمل الجد، أو حتى تلك التي تؤخر معالجة هذا النوع المهم من القضايا.
وبالحديث عن قطاع الموضة، يبرز عدد كبير من المعضلات الخلقية التي تواجهها العلامات الفاخرة، وبشكل خاص في بعض أكبر دور الأزياء الراقية في العالم، والتي اضطرت -حسب المراقبين- إلى التكيف بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة لتجنب الانهيار.
ولكن ذلك تسبب في تداعيات ضارة على العمال والبيئة والمجتمعات، ما يمثل تحديات خلقية يجب أن تسعى العلامات جاهدة لمعالجتها والتغلب عليها إذا أرادت البقاء. فكيف تبدو هذه المعضلات؟ سؤال تحاول السطور التالية البحث في إجابته.
الأجور المنخفضة
ظلت الأجور المنخفضة تشكل إحدى المعضلات الخلقية في قطاع صناعة الرفاهية، وعلى وجه الخصوص في صناعة الأزياء. فلطالما اعتمدت العلامات الراقية على تصنيع منتجاتها في بلدان نامية، وذلك لتلبية احتياجاتها من العمالة المنخفضة الأجور. ومن ثم فقد استفادت من فرص دفع أجور أقل بكثير للعمال مما كانت ستدفعه إذا كان موظفوها في أوروبا على سبيل المثال.
أثار هذا الأمر خلال السنوات الأخيرة حالة من الإدانة والاستنكار المتزايد، إذ رأى الزبائن أن العلامات التي يحبونها تسعى إلى الربح على حساب الآخرين، وهو ما دفع علامات الأزياء مثلاً إلى البحث عن مخرج من خلال السير في أحد اتجاهين، إما تقديم تعويض عادل للقوى العاملة لديها بالدول النامية، أو نقل عملياتها إلى مكان آخر لتجنب فقدان زبائنها الكبار، مع ضرورة الالتزام في كلا الحلين بتوفير ظروف عمل لائقة، وهو الأمر الذي أبرز حقيقة أن المستهلكين يمكنهم إحداث تأثير إذا كانوا مستعدين لذلك.
على أن الأمور تتطور دائمًا. فمع تلك الإغلاقات الأخيرة التي عاناها العالم بسبب جائحة كوفيد 19، عانت قطاعات عدة في مقدمتها قطاع الأزياء على سبيل المثال، وهو القطاع الذي لجأت بعض علاماته لتسريح جزء من عمالها، في ظل مشهد يبرز في خلفيته الحفاظ على هوامش الربح، بالتوازي مع التقدم التقني والتكنولوجي وما يعنيه من تعويض الذكاء البشري بالاصطناعي، لتتعقد الصورة!
المخاوف البيئية
نظرًا لأن التغير المناخي أصبح أحد أكبر الموضوعات المسيطرة خلال السنوات القليلة الماضية، فقد أصبح تأثير العلامات الفاخرة والشركات الكبرى على البيئة تحت دائرة الضوء على مستوى العالم أجمع، في ظل مخاوف أثيرت بشأن تأثيرات صناعة الأزياء وما تستخدمه من مواد على البيئة، وتلوث عناصرها كنتيجة مباشرة لعمليات الإنتاج والتصنيع الفاخرة، ومدى كلفة ذلك على كوكبنا.
ولذلك يطالب الزبائن الذين يسعون إلى تقليل تأثيرهم البيئي بأن تقوم العلامات التي يتسوقون منها بتغيير مثل هذه الممارسات، بالإضافة إلى الحصول على المواد بطريقة أكثر استدامة، واستخدام بدائل معاد تدويرها وقابلة لإعادة التدوير كلما أمكن ذلك، مع ضرورة وجود سياسة بيئية واضحة لكل علامة، للحد من تأثير الاحتباس الحراري لعملياتها، مثلما يتطلع الزبائن لتقليل بصمتهم الكربونية بالبحث عن علامات وشركات محلية تلبي تطلعاتهم المسؤولة نحو البيئة.
ولذلك أقدمت العديد من العلامات الفاخرة على تكييف عملياتها وفقًا لهذه الرغبات، بإيجاد بعض الحلول غير التقليدية. فعلى سبيل المثال انطلقت أفكار أسواق إعادة البيع والتأجير الفاخرة، كما شاهدنا الألماس المزروع في المعامل. وكلها أعمال تعالج الاهتمام المتزايد بالاستدامة بين المستهلكين، في وقت تسعى فيه العلامات للعودة للحرفية والجودة من خلال خطوات مستقبلية واسعة، بعد فترة طويلة من سيطرة هواجس التركيز على نمو المبيعات أكثر من أي شيء آخر.
الاتصالات الخُلقية
بالإضافة إلى تكييف عمليات التوريد والتصنيع ومراجعة سياسات العمل، كان على العلامات التجارية تغيير طريقة تواصلها أيضًا مع الزبائن، إذ أصبحت اللغة والرسائل القديمة لا تلقى صدى واسعًا لدى زبائن جيل الألفية وجيل Z (وهو الجيل المولود خلال الفترة من منتصف التسعينيات إلى عام 2010).
ومن أجل إنشاء اتصالات فعالة، تجد العلامات الفاخرة نفسها في دراسة وتحليل دائم لجمهورها المستهدف أكثر من أي وقت مضى، إذ إن فهم الزبون الحديث والطريقة التي يفكر بها يجب أن ينعكس على المحتوى الذي يُنشر عبر مواقع الويب ومنصات التواصل الاجتماعي والحملات الإعلانية الخاصة بكل علامة.
والحقيقة هي أن بعض العلامات الفاخرة نجحت في ذلك، ولكن ثمة علامات أيضًا أخفقت بشدة فخسرت الكثير. وثمة أمثلة شهيرة في هذا الخصوص لسنا في مجال الحديث عنها، ولكنها تدل على أن المستهلكين ذوي التفكير المستقبلي لن يتغاضوا عن الصياغة أو الصور المسيئة أو الاستفزازية، حتى وإن كانت عن غير قصد. ولا يقتصر الأمر هنا على العلامات التي تقدم منتجات فاخرة كالسيارات والأزياء مثلاً، ولكنه يمتد لمختلف قطاعات الرفاهية والترفيه والخدمات الراقية. فبالإضافة إلى استخدام اللغة المصممة لإحداث صدى، يجب على هذه العلامات أن تتعامل بحذر أيضًا عندما يتعلق الأمر بتسويق نفسها بمسؤولية.
المسؤولية الاجتماعية
تشير الأبحاث إلى أن المستهلكين قد يقومون بتقييم سلبي للعلامات الفاخرة إذا افتقدت الاتساق بين الاستهلاك الخلقي والرفاهية. فمن المهم فهم كيفية الترويج لاستهلاك الرفاهية الخلقية وممارسات الإنتاج الأنظف في الرفاهية، إذ يتعين اتخاذ هذه العلامات العملاقة خطوات للإبلاغ عن التأثير الاجتماعي والبيئي لعملياتها، في الوقت الذي قد ينظر فيه المستهلكون إليها باعتبارها أقل خلقًا مقارنة بالعلامات الأصغر.
لذلك تستثمر العلامات الراقية مليارات الدولارات في بند المسؤولية الاجتماعية على أمل تحسين تلك التصورات، بتحقيق تأثير إيجابي على المجتمع من خلال المشاركة الاجتماعية والعمل الخيري الاستباقي، والتصرف بطريقة مسؤولة اجتماعيًا.
ولكن إذا اشتبه المستهلكون في صدق ذلك، فإنهم يكرهون هذه الممارسة ولن يكافئوها بمشترياتهم أو ولائهم.
فزبائن المنتجات الفاخرة يتعمقون في معنى وهدف العلامات التجارية التي يختارونها، ويبحثون عن قيمها التي تتوافق مع قيمهم الخاصة، والتي تشكل جزءًا من الحمض النووي الخاص بهم. وهذا يعني أكثر من مجرد اتخاذ العلامة موقفًا بشأن البيئة والاستدامة والممارسات، إذ تمتد لدعم القيم الثقافية المختلفة، مع التأكيد على سياستها المراعية لحقوق الإنسان والحيوان والنبات والبيئة أيضًا، من خلال عمليات مراقبة سلاسل التوريد والإنتاج، والتأكد من أنها خالية من أي انتهاك.
وحسب الخبراء فإن المستقبل سيكون للعلامات الفاخرة الفائزة بهذه الجولة، إذ يتوقع المستهلكون أن تتصرف العلامات الراقية بمسؤولية، وتؤدي أنشطة هادفة من أجل رفاهية الجميع بشكل عام، مع احتفاظ كل علامة بدافعها الرئيس ألا وهو تحقيق الربح.