فيما تتهيأ مؤسسة بينالي الدرعية لإطلاق الدورة الثانية من المعرض الدولي للفنون المعاصرة في الرياض في يناير من العام المقبل تحت إشراف الخبيرة الفنية أوتي ميتا باور التي جرى اختيارها أخيرًا لتكون المنسق الفني للدورة المقبلة، تفصلنا أيام قليلة عن اختتام بينالي الفنون الإسلامية، المستمر من يناير الفائت إلى أواخر هذا الشهر، والذي يستكمل مساعي المؤسسة التي تستلهم الإرث الثقافي العريق للمملكة العربية السعودية في مساعيها الحثيثة لرعاية المشهدين الفني والثقافي في المنطقة.
وأنت تزور بينالي الفنون الإسلامية الذي تستضيفه صالة الحجاج الغربية بمطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة، تستدرجك في هذه الواحة - التي تولت تصميمها شركة "جيو فورما استوديو"، الرائدة في مجال الهندسة المعمارية وتصميم المواقع والإنتاج، بالتعاون مع شركة "بلاك" التي تنشط في مجال إدارة المشاريع الإبداعية والرؤية والتخطيط الاستراتيجي – تستدرجك روائع فنون إسلامية تبدد الفواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل فيما تبرز دور الفرد والجماعة قديمًا وحديثًا.
فتحت عنوان "أوّل بيت"، في إشارة إلى الكعبة المشرّفة بوصفها "أول بيت وُضع للناس"، استُحدثت على مساحة 118,000 متر مربع داخل مبنى الحجاج الغربي، الحائز جائزة الآغا خان لعام 1983، والذي ما فتئ يحتفظ بأهمية خاصّة من حيث كونه مُنطلق رحلة العمر لملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم، استُحدثت واحة البينالي بتصميم سينوغرافي يتماشى مع السقف القماشي المثبت بالكابلات في الصالة التي أعيد تصميمها لتكون مظلة للفنون الإسلامية.
فنون وآثار نفيسة
في بينالي الفنون الإسلامية بجدة، تنغمس الأبصار والذاكرة في رحلة استكشافية آسرة لثقافة العالم الإسلامي فيما تجول الأفئدة وسط مقتنيات أثرية تاريخية من الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأعمال تكليف فنية معاصرة.
ففي "أول بيت" تُستعرض 280 قطعة أثرية، منها 239 قطعة من المملكة العربية السعودية، وأكثر من 40 قطعة عالمية، إلى جانب أكثر من 59 عملاً فنيًا معاصرًا، وما يزيد على 50 مشروع تكليف جديدًا بتوقيع نخبة من الفنانين المخضرمين والناشئين من مختلف أنحاء العالم، الذين تنوّعت الوسائط الفنية التي استخدموها بين الرسم والنحت وأعمال التركيب والنسيج والتصوير الفوتوغرافي ومقاطع الفيديو،
لتعكس موضوعات المعرض فيما تؤسس لحوارات فنية وثقافية مُلهمة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
ستارة لباب الكعبة ضمن المقتنيات الأثرية التي تُعرض في بينالي الفنون الإسلامية.
هي رحلة سرديات أفرد لها بينالي الفنون الإسلامية مساحات عرض داخلية وخارجية في قسمين رئيسين يكمّلهما معرض "المدار" التابع ومنطقة للتجارب الإبداعية أقيمت تحت مظلة خارجية بجوار صالة الحجاج الغربية. وفيما يحمل القسم الأول من المنصة السردية اسم "القبلة"، مستعرضًا عبر قاعاته التسلسلية طقوسًا وشعائر راسخة في إرث العالم الإسلامي والمسلمين، يضيء القسم الثاني، المنظّم بعنوان "الهجرة" تحت الخيام العملاقة في صالة الحجاج، على ذاك الحدث العظيم الذي شكل بداية التقويم الإسلامي.
على أنك سرعان ما تدرك باستكشافك للمعروضات في القسمين أن رؤية "أول بيت" لا تُعنى بتوصيف الحج بقدر ما تتوخّى ترجمة إحساس متسام بالمعنى فيما تستحضر التاريخ والثقافة والتراث.
Islamic Arts Biennale Jeddah
صندوق لحفظ المصحف من القرن الثامن الهجري.
"القبلة".. طقوس وروحانيات
على امتداد صالات العرض المكوّنة لقسم "القبلة"، جمع منسقو بينالي الفنون الإسلامية قطعًا أثرية تاريخية وأعمالاً فنية معاصرة، تشمل تراكيب ضخمة الحجم وعناصر رقمية، في تسلسل متقن يرقى بتجربة الزائر الحسية فيما يركز على استثارة مشاعره أكثر منها على استعراض شعائر الإسلام ومعنى أن يكون الفرد مسلمًا اليوم.
بل إن المعرض بمختلف أقسامه وموضوعاته لا يطرح تفسيرًا بالمعنى الحرفي للعقيدة بقدر ما يتناول المحسوس من خلال تعابير بصرية تملأ النفوس هيبة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
صورة من سلسلة بعنوان "أوّل ضوء"، التقطتها الفنانة السعودية نورا العيسى من تحت عباءتها للحجاج من حول الكعبة.
وأول الغيث رحلة من العتمة إلى النور تتواطأ على الحواس والأفئدة لتعكس رحلة الروح. فعبر ممر خافت الإضاءة يتردد فيه صدى أصوات مؤذنين من مختلف أنحاء العالم، يصل الزائر إلى القاعة الأولى "أذان" حيث جمع الفنان اللبناني الأمريكي جوزيف نعمة، الذي تغوص ابتكاراته الصوتية في قضايا الذاكرة والهوية، مكبرات للصوت تنتظم في شكل نصف دائري تحت عنوان "نسمة كونية" لاستعراض تسجيلات أصوات مؤذنين من اليابان وجنوب إفريقيا وألمانيا وغيرها، فضلاً عن أول تسجيل للأذان من المسجد الحرام في أواخر القرن التاسع عشر.
Islamic Arts Biennale Jeddah
صفحات مكتوبة على الجلد بماء الذهب من مصحف يعود إلى نهاية القرن الثامن وبداية التاسع الميلادي.
وعبر القاعة نفسها، تتوزع سلسلة صور بعنوان "أوّل ضوء" تستعرض مشاهد بالأبيض والأسود التقطتها الفنانة السعودية نورا العيسى من تحت عباءتها للحجاج من حول الكعبة. يلفت الأنظار في هذه القاعة أيضًا عرض بعنوان " الإسطرلاب: مرآة النجوم"، قوامه مجموعة من الإسطرلابات التي ترجع إلى القرن السابع عشر، والموجهة نحو القبلة في مشهد يستحضر مساهمات العلماء المسلمين في مجالات الفن وعلم الفلك والرياضات والهندسة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
سجاجيد صلاة ملوّنة جمعها الفنان الجنوب إفريقي إيغشان آدامز وأعاد تقديمها في عمل بعنوان "صلاة الجماعة".
نُسقت القاعة الثانية في هذا القسم تحت اسم "الوضوء"، هذا الطقس الراسخ في يوميات المسلمين، والذي استُعرضت هنا أيضًا دلالته الرمزية من حيث كونه يمثّل إعادة التواصل مع الأصل من خلال إبداعات شملت عملاً ثلاثي الأجزاء بعنوان "أصلّي لسقوط المطر" طرحت فيه الفنانة السعودية سارة إبراهيم فكرة روحانية التقاء الماء بالماء من منطلق أن جسم الإنسان مكوّن بنسبة كبيرة منه من الماء، وعملاً تركيبيًا للفنان المغربي مبارك بوحشيشي الذي صاغ إبداعه تحت عنوان "كلنا من تراب" على نسق سجادة شكلها من 1,288 قطعة من الصلصال المحروق بألوان التراب والسماء مستكشفًا من خلالها رابطًا يوحّد البشر فيما يعكس فكرة الاجتماع للتأمل والصلاة.
هي هذه الصلاة تحضر مدلولاتها أيضًا في هذا القسم من "أول بيت"، على ما تشهد مثلاً مخطوطات وقطع أثرية بينها صندوق خشبي لحفظ المصحف الشريف، وشمعدان نحاسي، كلاهما من القرن الرابع عشر، فضلاً عن محراب مسجد من أصفهان يرجع إلى منتصف القرن نفسه.
Islamic Arts Biennale Jeddah
محراب مسجد من أصفهان يرجع إلى منتصف القرن الرابع عشر.
وفي التعبير عن موضوع الصلاة، تجذب انتباهك هنا أيضًا تحت عنوان "صلاة الجماعة" سجاجيد صلاة ملونة استعارها الفنان الجنوب إفريقي إيغشان آدامز من معارفه في كيب تاون وأثرى تفاصيلها المهترئة من فرط الاستعمال بالخرز والأحجار شبه الكريمة. أما الفنان البريطاني إدريس خان، فوثّق مقاربته لفكرة الصلاة في عمل تركيبي ضخم بعنوان "سبع مرات"، صاغه من 140 مكعبًا من الصلب الأسود، تترتب في صفوف لتحاكي شكل الكعبة المشرّفة، وكل منها يزهو بكتابات عربية لصلوات وأدعية يرددها المسلمون.
Islamic Arts Biennale Jeddah
شمعدان نحاسي من القرن الرابع عشر.
ثمة عمل آخر تشخص إليه الأبصار في قاعة "أجل" ويحمل هذه المرة توقيع فنان آخر من جنوب إفريقيا هو هارون غان-سالي. تحت عنوان "بين الرجال"، أعاد غان-سالي إحياء ذكرى جنازة الداعية المناهض للفصل العنصري عبد الله هارون (الذي خرج لتشييعه في عام 1969 ما يزيد على 40 ألف شخص) في عمل مكوّن من كوفيات بيضاء تبدو سابحة في الهواء ويرافقها تسجيل صوتي لسيرة الداعية وخُطبه. وفيما يشرع هذا المشهد نافذة على مفهوم الفقدان والحنين، تُستكمل الفكرة نفسها في مجموعة منسّقة من الشواهد الأثرية مصدرها مقبرة المعلاة في مكّة المكرمة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
عمل تركيبي بعنوان "سبع مرات" يوثّق به الفنان البريطاني إدريس خان مقاربته لفكرة الصلاة.
وأنت تنقل الخطو في ما يشبه رحلة وجدانية بطابع فني وتاريخي، تنتهي في نهاية هذا القسم إلى صالة "بيت" (في إشارة إلى أول بيت من بيوت الله)، التي يحيط ضياؤها الساطع بباب ذهبي قديم للكعبة المشرّفة صُنع في عام 1940 بأمر من الملك عبد العزيز، وإلى جواره عمود خشبي طويل كان داخل الكعبة منذ عهد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فضلاً عن عمودين من الحرم المكي يرجعان إلى العصر العباسي، وباب آخر للكعبة من عام 1640 ظل في مكانه قرابة 300 عام منذ عهد السلطان مراد الرابع. وتكمّل هذه القطع الأثرية أنابيب حديدية من إبداع السعودي ناصر السالم الذي يستعرض من خلالها الأبعاد المختلفة لبناء الكعبة عبر العصور، وعمل بعنوان "إحرامات" شكل الفنان أيمن يسري تفاصيله قطعًا من الإحرام تزهو بنقوش مختلفة ولكن تتشابه في لونها الأبيض وماهيتها.
Islamic Arts Biennale Jeddah
آيات من سورة النحل في مخطوطة قرآنية.
"الهجرة".. حس جامع بالانتماء
Islamic Arts Biennale Jeddah
"بين الرجال".. عمل تركيبي للفنان الجنوب إفريقي هارون غان-سالي.
على غير ما هو عليه الحال في قسم "القبلة"، اعتُمد هنا أسلوب انسيابي في تنسيق المعروضات التي تطرح تفسيرات مختلفة لكلمة "الهجرة" فيما توثّق دور الشعائر في ترسيخ إحساس جامع بالانتماء عند المسلمين في مختلف أنحاء العالم، بموازاة الإضاءة على نشأة الثقافة المشتركة وتطورها.
Islamic Arts Biennale Jeddah
مجموعة منسّقة من الشواهد الأثرية مصدرها مقبرة المعلاة في مكّة المكرمة.
فهنا يجتمع أكثر من 40 عملاً فنيًا معاصرًا تغطي مفاهيم مختلفة، بداية من الوقت الذي تعكسه ساعة فلكية، وعمل يستكشف تاريخ المزولة في العالم الإسلامي، والجغرافيا التي تحضر في مجسّم لمسجد لا يسبب أي انبعاثات كربونية، صيغ من ألواح مصدرها باكستان وبنغلادش، ومنحوتة زجاجية مصنوعة من الرمل من فلسطين، وصولاً إلى الحواس في مفهوم تصوّري فني يتعقب حكاية العود.
Islamic Arts Biennale Jeddah
باب ذهبي قديم للكعبة المشرّفة صنعه الشيخ محمد يوسف بدر في عام 1940 بأمر من الملك عبد العزيز.
على أنكم لن ترغبوا في أن تفوّتوا في هذا القسم الأجنحة التي خُصصت لمقتنيات نفيسة مصدرها المدينة المنوّرة ومكة المكرمة. فهنا نُسقت كنوز أثرية وتاريخية بعضها لم يُعرض من قبل، بما في ذلك باب للكعبة مصقول بالفضة من القرن الحادي عشر، ومخطوطات ووثائق، ومفتاح أثري للكعبة من مقتنيات متحف اللوفر في باريس، فضلاً عن مجموعة مختارة من الصور لجدار القبلة ومنارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، و"بني شيبة" حفظة مفتاح الكعبة المشرّفة.
Islamic Arts Biennale Jeddah
مفتاح الكعبة المشرّفة.
على الهامش
بموازاة برنامج للعامة يهدف إلى تنشيط سبل التفاعل بين الأطفال والراشدين والفنانين المحليين بما يخدم إثراء تجربتهم الاستكشافية لبينالي الفنون الإسلامية من خلال ورش عمل وجلسات حوارية وأنشطة إبداعية، يستضيف هذا الحدث، تحت اسم "المدار"، معرضًا تابعًا تجتمع فيه اثنتا عشرة مؤسسة ثقافية من مختلف أنحاء العالم، من أوروبا وشمال وغرب إفريقيا إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، بهدف التأسيس لمنصة مبتكرة لمسارات تعاونية للحوار وتبادل الخبرات والممارسات والأبحاث المبتكرة حول الفنون والثقافة في العالم الإسلامي، هذا العالم الذي نجح بينالي الفنون الإسلامية بجدة في أن يوثّق دلالاته في مشهد إبداعي جامع يخاطب الذائقة الفنية والذاكرة والوجدان.