عندما يُذكر اسم جيرالد جِنتا Gérald Genta، فإن صورة ذلك المصمم-الأسطورة تقفز إلى مخيلة خبراء الساعات ومحبيها. كيف لا، وقد استطاع هذا الرجل خرق كثير من قواعد لعبة تصميم الساعات والتجديد فيها وإرساء قوانين ومعايير جديدة لها خلال مسيرته المهنية التي بدأها رسامًا يافعًا، يبيع تصاميمه لصناع الساعات في أربعينيات القرن الفائت وخمسينياته، حتى قادته موهبته وقدراته الإبداعية ونشاطه غير المحدود لأن يصبح أحد أهم مصممي الساعات في العالم، وينال عن جدارة لقب "بيكاسو الساعات".
اليوم، وبالتعاون مع إيفلين جِنتا، شريكة حياته وشريكته في العمل، تنظم دار سوذبيز سلسلة من المزادات التي ستُعرض فيها مجموعة تصاميم أصلية تحمل توقيع جيرالد جِنتا تكريمًا لهذا الرجل الذي لا يتكرر. كما سيجري تحويل هذه التصاميم القيمة إلى لوحات رقمية بتقنية الرموز المشفرة غير القابلة للاستبدال NFT لتخليدها والحفاظ عليها ونشرها على أوسع نطاق.
من هو بيكاسو الساعات؟
أبصر جيرالد جِنتا النور في الأول من شهر مايو من عام 1931 من أب إيطالي وأم سويسرية، وكان يمتلك موهبة التصميم بالفطرة. وعلى ما كان يقول، لو أنه وُلد في إيطاليا لصار مصمم سيارات، ولكن كونه عاش في جنيف، اعتبر أن قدره هو الدخول في عالم صناعة الساعات من باب التصميم.
لم يأتِ لقب "بيكاسو الساعات" من فراغ، ولكنه اكتسبه لسببين: الأول لأن جنتا كان شغوفًا بأعمال الرسام العالمي بابلو بيكاسو ويعدّه مثله الأعلى وملهمه. أما السبب الثاني، فهو متعلق على الأرجح بغزارة إنتاجه وقدراته الإبداعية الهائلة. فذلك المراهق البارع في الرسم كان قادرًا على ابتكار تصميم جديد في ليلة واحدة من العمل في مشغله، أو حتى رسم ساعة أيقونية خلال خمس دقائق، على منديل ورقي، في أثناء جلوسه في المطعم، ليبلغ عدد الساعات التي صممها خلال حياته المهنية حوالي 100 ألف نموذج.
كانت تبدأ قصة الساعة بدائرة صغيرة بقطر مطابق لقياس قطر علبة الساعة، يرسمها جيرالد بوساطة بيكاره، ثم يبدأ بإضافة التفاصيل الصغيرة بأقلام الرصاص الرفيعة وفرش الرسم الدقيقة. ولأنه كان يعرف جيدًا كل ما يخص صناعة الساعات وأسرارها، فإن النماذج التي خرجت من مشاغل صناعة الساعات وجرى إنتاجها انطلاقًا من تصاميمه، كانت مطابقة تمامًا، من حيث الأشكال والقياسات والأبعاد، للرسوم الهندسية الأولى التي يضعها جِنتا ويتفنن في تصوير خطوطها. بدأ كل ذلك في مطلع حياته المهنية، حين أنهى دراسته في اختصاص الصياغة.
آنذاك، لم يكن ثمة وجود لما يُسمى "مصمم ساعات"، لكن جِنتا كان يقود سيارته من جنيف إلى مشاغل الساعات في مناطق لا شو دو فون La Chaux-de-Fonds ولو لوكل Le Locle ولا كوت أو فيه La Côte aux Fées حيث كان يبيع تصاميمه بحوالي 10 فرنكات سويسرية لكل رسم، ولا يعود إلى منزله في العاصمة إلا بعد أن يكون قد ربح 1000 فرنك سويسري في رحلته هذه.
Gérald Genta
انطلاقة مدوية إلى عالم الشهرة
في سن الثالثة والعشرين، خطا جيرالد جِنتا خطوته الأولى نحو الشهرة، حين قام بتصميم ساعة SAS Polerouter الفولاذية الكلاسيكية المظهر لصالح شركة "يونيفرسال جنيف" Universal Geneve. وقد جرى إنتاج هذه الساعة لتخليد ذكرى أولى الرحلات القطبية للخطوط الجوية الاسكندينافية ما بين عامي 1952 و1954. أصبحت الساعة بعد ذلك واحدة من أبرز إنجازات شركة "يونيفرسال جنيف" التي لم تكن المستفيدة الوحيدة من هذا الإنجاز. فقد بدأ المصمم الشاب جيرالد جِنتا بتلقي عروض العمل لصالح عدد من أهم دور صناعة الساعات السويسرية، فوضع توقيعه على نماذج لا تُحصى ولا تُعد من الإصدارات.
عمل جِنتا في عام 1959 على تطوير وتحديث مجموعة Constellation الأيقونية لدار أوميغا التي ما زالت تتابع إنتاجها في طُرز جديدة حتى اليوم، كما أنه صمم مجموعات من الساعات الشهيرة لدور عريقة أخرى. في عام 1969 أسس شركته الخاصة التي تحمل اسمه، وأبدع من خلالها في التصميم والتنفيذ والابتكار من حيث الأشكال والمواد والجمع بين الوظائف.
وباختصار، استطاع جيرالد جِنتا إحداث كثير من التغييرات الإيجابية في قطاع صناعة الساعات، وكان من القلائل الذين تمسكوا بصناعة الساعات الميكانيكية الراقية خلال ما يسمى في القطاع "أزمة الكوارتز" أي الفترة التي كانت فيها ساعات الكوارتز تجتاح السوق وتسيطر عليه.
تشمل أبرز النماذج التي حملت توقيع جِنتا ساعة غراند سونري Grande Sonnerie التي تصدر نغمات مطابقة لنغمات "بيغ بن" والتي عُدت في وقتها إحدى أكثر الساعات تعقيدًا، وتطلب تصميمها وإنجازها ما يقارب خمس سنوات من البحث والدراسة، إضافة إلى نماذج أخرى من الساعات التي أنتجها تحت اسم شركته الخاصة، ومنها مجموعة ديزني، وساعات Octagonal وRetrograde وغيرها كثير.
كما اشتهر جنتا بتصميم الساعات الفريدة الإصدار للزبائن المهمين الذين أرادوا تزيين معاصمهم بنماذج تحمل توقيع أحد أهم الأساطير في مجال تصميم الساعات الراقية، ومن هذه النماذج نذكر ساعة Gefica Safari التي صممها بناءً على طلب ثلاثة من صيادي الأدغال، وتضمنت وظائف مفيدة لهم هي البوصلة وتعقيد أطوار القمر. وقد ظهر إبداع المصمم أيضًا من خلال تسمية الساعة التي تتألف من مجموع الحرفين الأولين لكل من أسماء أولئك الصيادين أي جيفري Geoffroy وفيسوري Fissore وكانالي Canali.
ساعة Genta’s personal Royal Oak / جيرالد جنتا الشخصية
تصاميم أيقونية بسرعة البرق
تقول زوجته إيفلين جِنتا: "لقد كان جيرالد فنانًا قبل كل شيء، يجلس كل صباح إلى مكتبه ليرسم ويعبر عن أفكاره الوفيرة، ولا نعرف إلى أين سيصل بخياله أو بأفكاره. بوصفه فنانًا سويسريًا مقيمًا في جنيف، شعر أن من واجبه أن يطبق مواهبه الفنية على تصميم الساعات، وهذا ما كرس حياته له حقيقة".
ولعل المجموعة الأيقونية التي شكلت أحد المنطلقات الأساسية لشهرة "بيكاسو الساعات" كانت مجموعة رويال أوك Royal Oak الثورية والريادية التي صممها لصالح دار أوديمار بيغيه. يروي جيرالد جنتا أنه في الساعة الرابعة من بعد ظهر أحد أيام عام 1970 تلقى اتصالًا من جورج غولاي، المدير الإداري لدار أوديمار بيغيه طالبًا منه تصميم ساعة فولاذية رياضية لا تشبه أي ساعة أخرى، وتكون مقاومة للماء.
كما طلب غولاي أن يكون التصميم جاهزًا خلال 24 ساعة. نجح جيرالد جنتا في المهمة، مصممًا النموذج الأول من ساعات رويال أوك، التي شكلّت الساعات الرياضية الأولى المصنوعة في علب من الفولاذ، مستوحاة من خوذة غطس تاريخية كانت مثبتة إلى الأجزاء الأخرى من بدلة الغطس بوساطة 8 براغي، ما أوحى لجيرالد تصميم ساعة مثمنة الأطراف. وبعد إطلاقها في معرض بازل عام 1972، سرعان ما أصبحت هذه الساعة واسعة الشهرة والانتشار، وكانت المرة الأولى التي صُنف فيها الفولاذ معدنًا نبيلاً..!
أما قصة جيرالد جنتا مع ساعات نوتيلوس Nautilus لدار باتيك فيليب، فهي مميزة أيضًا، إذ إنه قام برسم خطوطها الأولى خلال خمس دقائق فقط على منديل ورقي في أثناء جلوسه في أحد المطاعم، لتصبح هذه الساعة منذ ابتكارها في عام 1976 من أهم ساعات باتيك فيليب الأيقونية المستوحاة بدورها من عالم البحار، ولكنها هذه المرة تشبه الفتحات الموجودة في السفن العابرة للمحيط الأطلسي. أما تسميتها، فأتت تيمنًا بغواصة الكابتن "نيمو" أحد أبطال رواية "20,000 فرسخ تحت البحر". أتت هذه الساعة بعلبة من الفولاذ مربعة الشكل، مدورة الزوايا، لتجسّد نموذجًا متوازنًا بين فئتي الساعات الرياضية والكلاسيكية.
تطول لائحة الإنجازات المبهرة في حياة جيرالد جِنتا، فقد قام بتصميم مجموعة "بولغري-بولغري" وساعات باشا Pasha لدار كارتييه، وساعات Ingenieur لدار أي دبليو سي، إضافة إلى ساعات لكل من فان كليف أند آربلز، وشوميه، وهاملتون وغيرها. يجمع بين هذه الإنجازات كلها الأسلوب الخاص والأفكار السابقة لأوانها في ما يخص تصميم التعقيدات، والعبقرية التي تميز بها "بيكاسو الساعات".
ساعة Nautilus / نوتيلوس
رسوماته أهداف لهواة الجمع
لا شك أن هذه الأفكار التقدمية التي تميز بها جيرالد جِنتا هي التي دفعت بشريكة حياته إيفلين إلى التأكيد أنه كان دائمًا سباقًا ورياديًا في القطاع، متقدمًا بخطوات كثيرة على كل ما كان يدور حوله، لذلك من الطبيعي أن يتم الحفاظ على إرثه الفني العظيم وتخليد تصاميمه من خلال تحويلها إلى لوحات رقمية بوساطة تقنية الرموز المشفرة غير القابلة للاستبدال NFT وهي الأكثر تطورًا بين التقنيات الفنية الرقمية اليوم.
بالتعاون مع إيفلين، سوف يُطرح 100 من تصاميم جيرالد جِنتا ترافقها لوحات رقمية بتقنية الرموز المشفرة غير القابلة للاستبدال NFT للمزايدة خلال سلسلة المزادات التي تنظمها سوذبيز في الفترة الممتدة من فبراير إلى مايو في جنيف وهونغ كونغ ونيويورك. تشمل هذه الرسوم التصاميم الأولى لساعات رويال أوك ونوتيلوس وغيرها من التصاميم التي تُعرض للعلن للمرة الأولى وتُعد ثروة حقيقية لقطاع صناعة الساعات.
ساعة Pasha / "باشا"
كما أن هذه الرسوم واللوحات الرقمية تُعد هدفًا أساسيًا لهواة الجمع الذين سيتمكنون من المنافسة للحصول على هذه التصاميم الأصلية التي تخبئ بين خطوطها عبقرية جيرالد جِنتا، وشغفه وحسه الفني، وخبرته العميقة في تصميم وإنتاج الساعات السويسرية الراقية، ويأتي كل ذلك ممزوجًا بذوقه الإيطالي الرفيع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن قسمًا من عائدات هذه المزادات سوف يُخصص لدعم مؤسسة Gérald Genta Heritage Association التي أسستها إيفلين جنتا في عام 2018 لتكريم زوجها العبقري، والتي تُعنى أيضًا بدعم وتشجيع صنّاع الساعات الشباب الذين يتمتعون بالموهبة، وهي حاليًا بصدد التحضير لإطلاق النسخة الأولى من مسابقة "جائزة جيرالد جِنتا للمواهب الشابة".
Montres Voitures / إحدى ساعات مجموعة "مونتر فواتور"
يُذكر أن المزادات التي ستُعرض فيها تصاميم جيرالد جِنتا افتُتحت في جنيف في 10 فبراير حيث سيستمر مزاد Gérald Genta: Icon of Time Sale Geneva إلى 24 فبراير، وهذا المزاد سيقدم التصميم الأساسي لساعة رويال أوك إضافة إلى الرسم التصميمي الأولي للساعة الذي لم يتم تنفيذه ولم يُعرض للعيان في السابق.
أما المزاد الثاني الذي سيقام في هونغ كونغ بين 7 و16 مارس المقبل، فسيعرض التصميم الأول لساعة نوتيلوس من باتيك فيليب، إضافة إلى ثلاثة من الرسوم الأولية لساعة غراند سونري. أما مزاد نيويورك الذي سيقام بين 13 و27 أبريل، فسيعرض أبرز تصاميم ساعات مجموعة ديزني. كما تكرم سوذبيز المصمم جيرالد جِنتا في مزادها Important Watches (ساعات هامة) الذي تقوم بتنظيمه مرة كل سنتين في جنيف، وسيقام هذه السنة خلال شهر مايو، من خلال عرض ساعته الشخصية من مجموعة رويال أوك في العيد الخمسين لإطلاق هذه المجموعة، إضافة إلى أربع لوحات زيتية تحمل توقيع جنتا وتحتفي بمجموعتي رويال أوك ونوتيلوس.