لعقود طويلة كانت طريقة اكتشافنا وشرائنا للسلع والخدمات تجري من خلال التفاعل المادي المباشر كزيارة المتجر مثلاً. وعندما ظهر الإنترنت، بدأت منصات التجارة الإلكترونية في الظهور، حاملة معها التسوق الرقمي في شكله المتعارف عليه، من خلال تصفح موقع ويب بواجهة ثنائية الأبعاد مع قوائم المنتجات والمعلومات والأسعار. وظل الأمر على هذا النحو إلى أن واجه العالم جائحة كورونا التي أعادت تشكيل أشياء كثيرة في عالمنا، قد يكون في مقدمتها طرقنا في التسوق، وربما في التفكير أيضًا.
فقد دفعنا الظرف الاستثنائي الذي فرضته الجائحة إلى التفكير في بدائل مختلفة لتجاوزها وتجاوز تبعاتها الضخمة التي أدت لتوقف صناعات بأكملها حول العالم كصناعة الترفيه على سبيل المثال. وقد أجبرت الجائحة الجميع على العمل في سبيل تطوير آلياتنا وتقنياتنا بما ينسجم مع عصر جديد من التطور.
وهنا ظهر عالم الميتافيرس Metaverse بوصفه حلاً مستقبليًا ساحرًا، يمكّننا من الاستفادة من الأصول الرقمية لاقتصادنا، بهدف الحفاظ على سير حياتنا اليومية من دون المساومة على رفاهيتنا. ولكن هل يكون هذا الحل ناجعًا؟ وما هي فرص النمو التي تقدمها تقنية الميتافيرس لعالم الأعمال؟
الحل المستقبلي للأعمال
في مطلع عام 2022، تنبأ أكبر البنوك الأمريكية "جي بي مورغان تشيس" بأن أعمال الميتافيرس التجارية ستمثل فرصة بقيمة تريليون دولار، خصوصًا بعد افتتاح صالة Decentraland في Metajaku Mall، بينما توقع سيتي بنك أن يمثّل عالم الميتافيرس فرصة محتملة تراوح قيمتها بين 8 و13 تريليون دولار بحلول عام 2030، وأن يضم هذا العالم ما يصل إلى 5 مليارات مستخدم.
وبالرغم من أن هذه الأرقام المتوقعة لا تبدو حتى الآن قريبة من الوضع الحالي، إلا أن ثمة اتجاهًا تصاعديًا مستقبليًا تشي به صورة مبشرة على المدى القريب: يتوقع أن تصل قيمة عالم الميتافيرس إلى 800 مليار دولار أمريكي خلال عام 2024، بما يعني ارتفاعًا بنسبة 1000% خلال أربع سنوات فقط، إذ ارتفعت القيمة من 47 مليار دولار أمريكي في عام 2020.
ومع هذه الإحصاءات والتقديرات المثيرة، والتطورات المتلاحقة والجارية على قدم وساق استعدادًا لمستقبل الأعمال في عالم الميتافيرس، بدأ أصحاب العقول التجارية الرائدة مبكرًا دراسة كيفية الدخول والاستثمار بقوة في هذا العالم. فالشركات المختلفة تعمل بنشاط لا ينقطع لاستكشاف تجارب الواقع الممتد، وتطوير آليات وتقنيات وأدوات هذا الواقع، ما يعني أن هذه المساحة الافتراضية المليئة بالفرص يمكن أن تحوّل صناعات بأكملها إلى جني الأموال من العالم ثلاثي الأبعاد بطرق أكثر ابتكارًا وإثارة.
وحسب الخبراء، فإن عالم الميتافيرس سيغير الطريقة التي نعيش ونعمل ونتواصل بها على مدار السنوات العشر المقبلة. وبالنسبة لأصحاب الأعمال في مختلف أنحاء العالم، فإن الأمر يبدو كفرصة مثيرة لا يمكن تجاهلها، على الرغم من أنه لا يزال قيد التطوير، إذ سنستطيع على سبيل المثال وليس الحصر من خلال هذا العالم الافتراضي: حضور الاجتماعات، وإدارة الأعمال التجارية، وشراء العقارات الافتراضية، واستخدام النقود الخاصة، وتجريب عناصر الموضة افتراضيًا قبل شرائها، والعمل عن بعد، وتحسين الاتصال، وغيرها الكثير.
وهنا يبرز عدد من الأنشطة التي يتيحها عالم الميتافيرس، والتي ستؤدي لتطورات إيجابية وربما لتحقيق نقلات كبرى في عالم المال والأعمال.
الأحداث الافتراضية
جاءت هذه الوسيلة الرائعة من تقنية الميتافيرس لتعمل على تسهيل تنظيم مختلف الأحداث بشكل افتراضي، كالعروض والاجتماعات ومختلف المناسبات، ومن ثم يمكن للشركات والعلامات الوصول إلى الزبائن أو الزبائن المحتملين والتفاعل معهم بسهولة، وكذلك إقامة الاجتماعات الافتراضية للشركاء والموظفين لإنجاز المهام، من دون الحاجة إلى إنفاق الأموال على السفر أو الإقامة أو تقديم الطعام، ومن ثم خفض النفقات وتسريع دورات العمل وتحسين الإنتاجية، مع تقليل انبعاثات الكربون والحد من بصمتنا وتأثيرنا على البيئة إلى أقل حد ممكن، وجميعها أهداف تسعى مختلف العلامات والشركات إلى تحقيقها.
منصات التسوق الافتراضية
تشكّل منصات التسوق الافتراضية طريقة جديدة لبيع السلع والخدمات والأصول الرقمية في عالم الميتافيرس، ويمكن الوصول إليها من خلال أي جهاز متصل بالإنترنت. ولقد رأينا بعض دور الأزياء الكبرى مثل غوتشي تتبنى هذا المفهوم بشكل سبّاق، وتقدم تجربة افتراضية متكاملة تسمح للزبائن خلالها بتجربة الملابس والإكسسوارات قبل شرائها.
وربما سيصبح هذا التوجه قريبًا هو القاعدة للجميع، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى زيادة الإيرادات، وبناء الثقة بين العلامة وزبائنها، إذ سيسمح لهم باتخاذ قرارات مستنيرة بشأن ما يجب شراؤه، ما قد يجعلهم أكثر استعدادًا للشراء بمبالغ كبيرة، ومن ثم يصب في إنعاش هذا القطاع.
العقارات الافتراضية
قد يكون هذا الحلم الآخذ في التحقق هو الأبرز في عالم الميتافيرس، حيث يمكن شراء وبيع عقارات افتراضية باستخدام التعاملات الرقمية التسلسلية Blockchain، وهو ما يسمح للمستخدمين بامتلاك الأراضي أو المباني في عالم الميتافيرس الافتراضي الساحر. كما يمكن لمالكي هذه العقارات استخدام ممتلكاتهم لكسب الإيرادات عن طريق تأجيرها أو إدراجها للبيع على منصة تسوق افتراضية، على نحو مشابه لكيفية استثمار العقارات في العالم الحقيقي.
سيكون المالك أيضًا قادرًا على استخدام هذه العقارات والممتلكات الافتراضية كضمانات للحصول على قروض من البنوك أو المؤسسات المالية، ما يجعلها أصولاً قيّمة للمستثمرين الذين يبحثون عن فرص استثمارية طويلة الأجل، ولكن بلغة المستقبل.
المكاتب الافتراضية
لسنوات عديدة تمتعت المكاتب الافتراضية بشعبية كبيرة، بما توفره من فرصة رائعة لبدء المشروع التجاري في عالم الميتافيرس. وبفضل أحدث الابتكارات التكنولوجية، أصبح من الأسهل، وربما الأرخص، تشغيل مكتب افتراضي تستطيع التحكم في حجمه وإمكانياته وعدد العاملين فيه، وهذا يعني عدم وجود مدفوعات إيجار باهظة، وعدم الحاجة إلى وجود الموظفين في مكتب حقيقي، وهو ما يوفر المال ويمنح قدرًا أكبر من الاستقلالية والحرية للعاملين والزبائن أيضًا، فضلاً عن تحسين التوازن بين العمل والحياة، بالإضافة إلى ميزات كثيرة تجعل هذه المكاتب مناسبة لإيقاع الحياة في عصرنا، ولمستقبل الأعمال.
الإشراف الافتراضي
قدم لنا عالم الميتافيرس كل ما سبق الحديث عنه، وكان من الضروري هنا أن يقدم حلولاً لإدارة عدد كبير ومتداخل من الأنشطة والأعمال الافتراضية التي تجري في أروقته. ولذلك قدم هذا العالم ما يمكن تسميته بالإشراف الافتراضي، إذ إنه يتيح تبسيط عمليات الإشراف على الإنتاج والتفاعل للشركات والأعمال والأنشطة المختلفة، من خلال استخدام التكنولوجيا لبناء طرق جديدة للعمل في البيئات الافتراضية، حيث يمكن لموظف واحد أو أكثر الإشراف على مصانع متعددة في الوقت نفسه وفي مختلف أنحاء العالم، من خلال أدوات ميتافيرس الخاصة التي تتحكم في الواقع الافتراضي من داخل الواقع الافتراضي، وربط مختلف حلقات العمل بشكل آمن.
ألعاب الميتافيرس
جاءت ألعاب الميتافيرس لتحتل مكانة مميزة في هذا المشروع المستقبلي الضخم، وهو أمر غير مستغرب، إذ إن صناعة الألعاب تعد واحدة من أسرع الصناعات نموًا، مع أكثر من ملياري لاعب في مختلف أنحاء العالم.
ومن المقرر أن تقدم تقنية الميتافيرس بعض الفرص الهائلة لمطوري الألعاب، إذ ستسمح لهم بإنشاء ألعاب على شبكة التعاملات الرقمية التسلسلية الخاصة بها. يطمح عالم الميتافيرس إلى أن يكون وجهة يجتمع فيها الناس ويتفاعلون على مختلف المستويات وبمختلف الأشكال، من دون أن يكون هذا التفاعل تكرارًا لعالمنا الحالي بل امتدادًا له، ومن ثم يمكن للعلامات التجارية هنا التواصل مع المستهلكين من خلال تجارب الواقع الممتد.
وحسب الخبراء، فإننا نشهد حاليًا البداية فحسب لانطلاقة عالم الميتافيرس. في هذه المرحلة، يجري تهيئة البنية التحتية، بما في ذلك الرقائق الإلكترونية والمعالجات التي ستتعامل مع هذا الكم الضخم من المعلومات، وشبكات G5 التي ستربط بينها والبنية التحتية السحابية التي ستخزن ذلك كله، بالإضافة إلى أدوات المحاكاة الافتراضية للوصول إلى أجهزة الواجهة، بما في ذلك سماعات الرأس والنظارات الذكية، وهي الأدوات التي سيصل حجم السوق العالمي فيها إلى ما يقرب من 300 مليار دولار بحلول عام 2024، فيما لا تزال الرؤية لعالم الميتافيرس حتى الآن غير مكتملة من حيث الشكل والمضمون والأدوات والمعدات اللازمة، إذ لم نرَ منها بعد سوى القشور، ومن ثم يصعب استشراف أي العوالم الافتراضية الطموحة ستتخذ طريقها بنجاح إلى قلب المستهلكين. ولكن التطور السريع والمتلاحق في وظائف التشغيل البيني والتقنيات ستجعل من الاستثمار في هذه المجالات للشركات والعلامات التجارية متعة مربحة، وربما أقل خطورة من العالم الواقعي.