تحظى ساعات دور الأزياء الراقية بسحر خاص، وشهرة كبيرة في أوساط الأجيال الشابة من جامعي الساعات، ربما لما توفره من أسعار معقولة مقارنة بالجودة والتميز الملازم لهذه العلامات. وحسب الخبراء يُعزى التوسع الذي تشهده دائرة هواة الجمع - التي ضمت لاهتماماتها علامات الموضة أخيرًا- إلى منصات التواصل الاجتماعي التي كان لها كذلك تأثير واضح على تنامي مبيعات هذه الدور من الساعات.
ظلت دور الأزياء لسنوات تنتج الحقائب والأحذية والإكسسوارات مع الأزياء، فيما كانت تتخذ خطواتٍ متمهلة للغاية في عالم الساعات والجواهر. وكانت الخطوة المنطقية هنا أن تنتج بشكل كامل مختلف عناصر المظهر وكماليات الأناقة، وهو المنهج الذي طبقته بعض العلامات مثل شانيل وهيرميس على سبيل المثال. ولكن السؤال الأهم هنا هو كيف سعت علامات الموضة والأناقة لاقتحام عالم الساعات؟
أيقونات الموضة
حسب الخبراء فإن علامات الموضة الفاخرة مثل لويس فويتون وشانيل وهيرميس وغيرها قد شحذت ببراعة هويتها الفريدة على مدار السنوات الماضية، ودفعت حدودها الإبداعية لبناء ساعات تعكس تمامًا سبب وجودها، دون إضعاف صورتها لدى عشاقها، وهي الصورة المرتبطة بالتألق والفخامة، وبما يسهم في ترسيخ مكانتها كأيقونات في عالم الموضة الأكثر رقيًا.
ولذلك من الطبيعي أن تنتج أقسام صناعة الساعات عالية الجودة في هذه العلامات نسخًا أصلية وغير مقلدة، يتجسد فيها الإبداع وروح العلامة، حفاظًا على سمعة تلازم كلاً منها في عالم الأناقة والتفرد.
وقد استطاعت العلامات المذكورة على سبيل المثال ترك بصمة جيدة في صناعة الساعات السويسرية، إذ فازت بجوائز ونالت إعجاب صناع الساعات التقليدية بما قدمته من رؤية مبتكرة، مثل تلك الرؤية التي قدمتها هيرميس في إبداعها ساعة L’Arceau Time Suspended، إذ احترمت فيها الأعراف التقليدية لصناعة الساعات السويسرية بعد أن أتقنتها.
Hermès
وفي هذه الدور ظلت آلية الحركة دائمًا في خدمة التصميم، ما يعني أن فريق التصميم يأتي أولاً بمفهوم مبدع أو عبقري، ومن ثم يتحدى صانعي الساعات لجعل أفكارهم الغريبة تتحقق. فعندما أرادت شانيل مثلاً القفز على عربة التوربيون في عام 2012، طلبت من شريكها رينو ايه بابي تشكيل الجسر على شكل زهرة الكاميليا، وهو ما عُد جنونًا آنذاك، ولكنه توج في ذلك العام بحصول ساعة Première Flying Tourbillon على جائزة أفضل ساعة نسائية ضمن جائزة جنيف الكبرى للساعات Grand Prix d’Horlogerie de Genève GPHG.
وعندما نستعرض قصة هذه العلامات سنكتشف أنها بذلت الكثير من الجهد والمال للوقوف جنبًا إلى جنب مع عظماء صناعة الساعات، إذ رفضت ببساطة ترخيص منتجاتها لشركة تصنيع تختم شعار العلامة على المنتج النهائي فحسب، على الرغم من أن هذا الأمر قد يكون الأكثر منطقية من الناحية التجارية.
ولكن دور الأزياء سلكت بدلاً من ذلك الطريق الشاق والأطول الذي يتناسب مع رؤيتها طويلة المدى وتطلعاتها في عالم صناعة الساعات. ومن ثم فقد أرست كل علامة وجودها في سويسرا، وأنشأت ورش عمل واستقطبت الكثير من المتخصصين ودخلت في شراكات مع المواهب المناسبة، كما أمضت سنوات في دراسة متمهلة لإتقان التقنيات والحرفية والمعرفة السويسرية، بما في ذلك تعلم أصول صناعة الساعات قبل أن تتمكن من كسرها لتشكيلها وفقًا لهويتها.
فضلاً عن ذلك، قامت كل دار بدمج مصانعها رأسيًا للتحكم في إنتاج مختلف المكونات، مثل العلب والأقراص ونوابض التوازن وغيرها.
بموازاة ذلك، توافرت كثير من الظروف التي دفعت علامات الموضة إلى تعزيز إنتاجها في صناعة الساعات، ووضعت القاطرة على القضبان لتأخذ طريقها نحو زيادة الإنتاج للصمود أمام الساعات التقليدية، ما ساهم في إنتاج إبداعات متفردة وجامحة، سمحت لعلامات الأزياء هذه بتطوير روح صناعة الساعات الفريدة الخاصة بها وتقديم تجربة لا تضاهى من الأناقة.
ولعل التأثير الذي أحدثته دور الأزياء على صناعة الساعات السويسرية كان كبيرًا ولا يمكن إنكاره، إذ ساعدت في الحفاظ على إرث هذه الصناعة، من خلال الاستثمارات الاستراتيجية فيها مع تقديم إبداعات مدروسة، أدت إلى جذب جمهور جديد تمامًا.
Chanel
تراث هيرميس
تمتلك علامة Hermès تاريخًا معروفًا، ولكن ما هو أقل شهرة هو تراثها في صناعة الساعات. فقد بدأ مع لمحة صغيرة عام 1912، عندما ظهرت صورة لبنات إميل هيرميس الأربع، وقد ارتدت إحداهن ساعة بحزام.
وفيما لم تكن طموحات هيرميس ظاهرة في مجال صناعة الساعات، إلا أن العلامة خصصت بعد نحو عقد من الزمان قسمًا من متجرها في شارع فوبورغ للساعات، لتقدم ابتكارات من صنع علامات سويسرية شهيرة، ولكنها كانت مختومة بشعار هيرميس.
وفي عام 1978 أنشأت العلامة قسمًا للساعات في Bienne لدراسة السوق وإنتاج ساعات عصرية تناسب متطلباته. وقد خدمت هذه الاستراتيجية العلامة جيدًا لنحو عقدين من الزمن، إذ ساهمت في إطلاق مجموعات من الساعات المثيرة للاهتمام، إلى أن وصلنا إلى عام 2003 حين تجسدت نيتها في تنمية قسم الساعات مع تلك الاستحواذات المدروسة التي شهدتها.
وبعد أقل من 20 عامًا يبدو أن الاستراتيجية قد آتت أكلها: دخلت Hermès في عام 2021 قائمة أفضل 20 علامة سويسرية للساعات، واحتلت المرتبة 19 قبل بولغري. واليوم يمثل قسم الساعات في Hermès نحو 4% من إيرادات الشركة، ولكن كيف حققت ذلك؟
يؤكد الخبراء أن الاستثمارات الاستراتيجية التي نفذتها العلامة، مع تأكيد شخصيتها وهويتها في تصاميم الساعات، والتركيز على شحذ خبرتها الحرفية وصقلها في صناعة الساعات باستمرار، كل ذلك وضع العلامة في مكانها الحالي في صناعة الساعات الأكثر رقيًا، إذ لم تنحرف ساعات Hermès أبدًا عن جوهرها وروحها وعالمها الخاص.
فساعاتها تتمايز بفخامتها وطابعها المرح، إذ إنها مبتكرة في تصاميم فنية حالمة. بل إن تعقيداتها أيضًا تُنفذ بأسلوب العلامة المثالي، الذي يتجسد في الأقراص الدوارة وواجهة العرض المبتكرة والتفاصيل الساحرة، كالميناء النيزكي، وزخرفة بيغاسوس والأرقام المنحنية، بالإضافة إلى تميز أحزمتها الجلدية التي توثق تاريخ العلامة العريق في هذا المجال، مع إيلاء التفاصيل أقصى درجات الاهتمام والرقابة الصارمة على الجودة.
Hermès
إبداع شانيل
أحدثت Chanel ثورة في صناعة الساعات عندما أطلقت ساعتها السيراميكية J12 عام 2002، إذ قدمت آنذاك رؤية متفردة في ساعة بأربعة أشكال لا يمكن خدشها.
لكن هذه لم تكن سوى خطوة أولى للعلامة في رحلتها الغنية بعالم صناعة الساعات، التي كانت قد بدأتها بابتكار ساعة Première المعروفة بشكلها الذي يحاكي غطاء زجاجة عطر Chanel رقم 5، إلى أن جاء عام 1993 حين ضمنت شانيل وجودها السويسري، من خلال الاستحواذ على حصة في G&F Châtelain المتخصصة في صناعة الساعات ومكوناتها، وهي الشركة التي أنشئت عام 1947 وتميزت بتاريخ من الجودة والمهارة.
G&F Châtelain
في مقر G&F Châtelain في لا شو دو فون، صنعت شانيل مختلف مكونات ساعاتها من الصفر، بما في ذلك السيراميك الذي تستخدمه لساعات J12 والذي يتطلب الكثير من الدقة والخبرة. وهناك احتفظت العلامة بسر بريق موادها، فيما استمر طموحها لتوسيع قسم صناعة الساعات لديها عن طريق ضخ المزيد من الاستثمارات الاستراتيجية من خلال حصص في Romain Gauthier، وFP Journe، وKenissi، بما يضمن ضم المعرفة الفنية التي تنتقل من جيل إلى جيل.
شانيل التي لم تحصر نفسها في عالم الأزياء استفادت من خبرتها بشكل كبير، إذ جلبت الحرف اليدوية والزخارف التي أتقنتها من عالم الأزياء وأضافتها إلى صناعة الساعات، كما يتضح من مجموعة Mademoiselle Privé التي تعرض غالبًا الحرف الفنية مثل التطريز على الميناء، وهي في الواقع بصمات رائعة واستراتيجية ساعدت في تمييز شانيل عن غيرها، لتنتج ساعات تتخطى بثقة الخط الفاصل بين الموضة وعالم الساعات.
والحقيقة هي أنها فاجأت الجميع بإطلاق أول آلية حركة عام 2016 في ساعتها الرجالية المدهشة Monsieur de Chanel، إذ أظهرت البراعة التي بنتها العلامة على مر السنين، لتتبعها بمعايير حركية وهياكل أخرى رسخت مكانة شانيل في عالم صناعة الساعات الراقية.
معادلة غوتشي
بدأت Gucci في إنتاج الساعات عام 1978، وعندما قدمت ساعتها Model 2000 حطمت الأرقام القياسية ببيعها أكثر من مليون نموذج خلال عامين. وعلى مدار عمر الدار في عالم الساعات واصلت ختم ساعاتها بشعار العلامة السويسرية الصنع، بينما احتلت المركز 25 في تقرير Morgan Stanley 2021 عن علامات الساعات السويسرية الأكثر مبيعًا.
وربما يعود جزء من ذلك لتوقيعها في عام 1972 اتفاقية ترخيص مع Severin Montres Group ما عزز وجودها في سويسرا. ومنذ ذلك الحين رسخت إنتاجها في مواقع عدة: في لا شو دو فون La Chaux-de-Fonds حيث تجري فحوصات مراقبة الجودة وتجميع الساعات وترصيع الجواهر، وفي مصنع كيرينغ Kering في نوشاتيل، الذي هو أيضًا مقر رئيس لساعات غوتشي، وحيث تنتشر الأفكار عبر عملية التصميم ليجري إنتاج آليات الحركة الداخلية بعد ذلك في تيتشينو، قبل أن تتخذ الساعات شكلها النهائي في محترف Fabbrica Quadranti الذي يصنّع الموانئ والذي استحوذت عليه العلامة عام 2013.
وكما يبدو فإن للعلامة تطلعات كبيرة لقسم صناعة الساعات، وقد تجلى ذلك من خلال إطلاق مجموعتها عالية الجودة في عام 2021، التي استلهمت تصاميمها من مصادر لا تحصى، وأخضعت لتقنيات صناعة الساعات السويسرية التقليدية من دون الانغماس في الفئة المجربة والمختبرة. على أن العلامة اختبرت قبل ذلك إطلاق أول حركة داخلية لها في ساعتها Gucci 25H، والتي تتدرج قيمتها حسب مادة العلبة ونوعية آلية الحركة من 1700 دولار إلى 142 ألف دولار أمريكي في بعض الإصدارات.
وحسب الخبراء فإن غوتشي لا تستهدف هنا زبائن باتيك فيليب أو فاشرون كونستانتين، ولكنها تستهدف أولئك الذين يسعدون باحتضان كل ما هو غير تقليدي، من الذين نشأوا وهم يرتدون ساعات مثل ساعات آبل Apple، ولا يرغبون بالضرورة في ارتداء الساعات التي كان يرتديها آباؤهم، ومن ثم فإنها تستهدف شريحة أخرى من الزبائن لعالمي الساعات السويسرية وساعات دور الأزياء، محققة بذلك معادلة شديدة التميز.
Gucci
تحدي لويس فويتون
سلكت لويس فويتون خلال أكثر من عشرين عامًا مسارًا مميزًا لترسيخ اسم العلامة بوصفها صانعًا للساعات الراقية، إذ كانت مهتمة منذ البداية بتعزيز خبرتها في صناعة الساعات في سويسرا، مع إنتاج ساعات تنقل روحها المغامرة عبر إعادة تخيل التعقيدات الكلاسيكية وتقديمها بطرق جديدة، وهو المسار الذي بدأته العلامة بالاستحواذ على La Fabrique du Temps لصانعي الساعات البارزين ميشيل نافاس وإنريكو بارباسيني اللذين ساهما في بعض إبداعات باتيك فيليب وأوديمار بيغيه على سبيل المثال.
وعلى مر السنين عززت لويس فويتون وجودها السويسري من خلال الاستحواذ على محترف Léman Cadran، وإنشاء منشأة Louis Vuitton High Watchmaking بمساحتها الضخمة التي تبلغ 4000 متر مربع في ميرين. ومن خلال هذا الموقع الاستراتيجي بين صناع الساعات في جنيف، استطاعت العلامة تقديم ساعاتها إلى معهد ختم جنيف، ما ضمن التأكيد على إنتاجها لساعات ترعى أكبر قدر من الاهتمام بمختلف التفاصيل، ومن ثم ابتكرت ساعات تجمع بين الصنعة المتقنة ورقي العلامة المشهود له.
Louis Vuitton
وانطلقت لويس فويتون في تقديم إبداعات فريدة مثل ساعة Spin Time التي احتوت على 12 مكعبًا بدلاً من الأرقام التقليدية، والتي استخدمت واجهة عرض ذكية بمهارة على مدار السنين، كما أعيد تصورها وتصميمها بأشكال فنية ومعادن مختلفة ودون الخوف من خوض التحدي لتقديم رؤيتها الإبداعية الخاصة وغير التقليدية في صناعة الساعات، مع استمرارها في البحث والتطوير وتبديد الخطوط الفاصلة بين الابتكار والتقاليد، ومن ثم نحتت العلامة لنفسها مكانة مرموقة في سجلات صناعة الساعات السويسرية.
وغني عن القول إن كل سبق أتاح للعلامة وغيرها من دور الأزياء تحقيق نقلات نوعية كبيرة، مكنتها في النهاية من جمع كل ما يتعلق بعالم الموضة في كيانات راسخة ومتكاملة، وربما تفاجئنا في وقت ما بإطلاقها لتعقيدات أكثر تميزًا وابتكارات لا تضاهى في عالم الساعات.