بشكل مفاجئ ودون مقدمات واضحة، استيقظ العالم على خبر انهيار بنك سيليكون فالي Silicon Valley Bank بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو الخبر الذي هز قطاعي البنوك والأعمال حول العالم، مؤذنًا بتبعات وتأثيرات لا يمكن توقعها بدقة، في ظل خوف من انتقال عدوى الانهيار لبنوك وقطاعات -وربما- دول أخرى.
فكيف حدث ذلك؟ وكيف تطور الأمر؟ وهل كان لوسائل التواصل الاجتماعي حقًا علاقة مباشرة بذلك الانهيار الكبير، خاصة في ظل حديث متداول عن أول انهيار بنكي يغذيه تويتر؟ في السطور التالية نحاول الاقتراب من المشهد لاستيضاح الصورة.
بداية الانهيار
لم يكن انهيار بنك سيليكون فالي -المعروف اختصارًا باسم SVB - الانهيار الأول لبنك كبير في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. بل إنه كان في الواقع الثاني بعد انهيار بنك واشنطن ميوتشوال في عام 2008، ولكن الأخير انهار في ظل مقدمات طويلة استغرقت نحو ثمانية أشهر، بينما انتهى انهيار بنك SVB بأعوامه الثلاثين سريعًا جدًا وفي غضون يومين فقط، ما طرح سؤالاً كبيرًا حول السر في ذلك، مع عقد مقارنة بين الانهيارين الكبيرين.
وحسب الخبراء فإن الانهيار الأحدث كان له السمات المميزة لأي انهيار بنكي قديم، ولكن مع تطور جديد يناسب تلك الصناعة الأساسية التي يخدمها البنك، حيث التقنيات والتكنولوجيا الأكثر حداثة ووسائل التواصل الأسرع، التي ساهمت بدورها في كشف الكثير من التخوفات -وربما- نشر الكثير من الشائعات عبر الإنترنت، وبشكل خاص عبر تويتر!
وقد كانت البداية عندما أدرك عدد قليل من عملاء SVB -قبل أسبوع من انهياره- مدى ضعف بنكهم، كباقي البنوك التي استثمرت الكثير من أموال عملائها وودائعهم في سندات الحكومة الأمريكية طويلة الأجل. وتكمن المشكلة هنا في أن للسندات علاقة عكسية مع أسعار الفائدة، لذلك عندما بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في رفع أسعار الفائدة بسرعة لمكافحة التضخم، بدأت السندات التي يمتلكها بنك SVB تفقد قيمتها بشكل كبير.
كما تضرر العديد من عملاء البنك أيضًا بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، فيما كانوا بحاجة للوصول السريع والمستمر إلى ودائعهم للوفاء بمصروفات العمل والتشغيل اليومية. ولكن مع تقلص قيمة استثماراتهم، كافح البنك لتلبية طلبات عملائه المتزايدة، ما دفعه لاتخاذ قرار بجمع الأموال من خلال بيع بعض الأسهم، وهو القرار الذي وصفه البعض بإعلان موت للبنك!
وهنا بدأ تسرب الأخبار حول نية بعض الشركات نقل أموالها من بنك SVB الذي خسر جزءًا من ثقة هؤلاء لبنوك أخرى أكثر أمانًا، وهو الخبر الذي انتشر سريعًا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. وفي غضون ساعات قليلة، استطاع عملاء البنك سحب نحو 42 مليار دولار بسرعة مذهلة مكنتها الخدمات المصرفية الرقمية، إذ سحبوا بذلك ما يعادل خُمس ودائع SVB، تاركين للبنك مليار دولار في رصيد نقدي سلبي، في عملية ربما مدفوعة بالذعر الفيروسي الذي انتشر على منصات ومجموعات الدردشة الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، ما أثار الرعب في عالم البنوك والأعمال.
شرارة تويتر
يعتقد البعض أن اليوم السابق لانهيار البنك هو اليوم الذي شهد سقوط قمة جبل الثلج، لتشكل كرة، سرعان ما تدحرجت بأقصى سرعة ليتضاعف حجمها، إذ لجأ العديد من أصحاب رؤوس الأموال البارزين إلى تويتر، واستخدموا منصاتهم الكبيرة لإطلاق الإنذارات مع الكلمات الاستهلالية نفسها في بعض الأحيان، لحث المستثمرين في الشركات الناشئة على إعادة التفكير في المكان الذي يحتفظون فيه بأموالهم. وسرعان ما انضم إلى هذه التحذيرات المؤسسون والرؤساء التنفيذيون لكبرى الشركات، مطلقين التغريدات حول الوضع المقلق للبنك.
انتشر صدى تغريدة رائد الأعمال كيم شميتز -المعروف باسم كيم دوتكوم- المنشورة في 12 مارس، ليشاهدها نحو 2.4 مليون شخص ويعاد تغريدها ما يقرب من 3500 مرة. وقد جاء فيها: "اركض على البنك! احصل على أموالك.. أول شيء يوم الاثنين.. البنوك الأمريكية في ورطة.. اجتماع طارئ لمجلس الاحتياطي الفيدرالي.. قد تُقفل الودائع.. حدود السحب الممكنة.. عندما تنهار الأسواق، قد تكون الودائع المصرفية التي تستخدمها البنوك الأمريكية للاستثمار في خطر.. النقد هو الملك.. اخرج الآن...!"، وهو ما ساهم في تسابق قادة الكثير من الشركات لسحب الأموال عبر الإنترنت، فكانت النتيجة الصادمة!
ويؤكد الخبراء أن الشائعات، وإن كانت تفتقد إلى الحقيقة أو مضللة، فإنها تتحرك بسرعة كبيرة. فقبل وقت طويل من وجود أي شكل من أشكال الاتصال الحديث، كانت الشائعات تنتشر عندما يسير الناس في الشارع ويلاحظون التجمعات خارج البنوك فتبدأ التكهنات ونسج القصص.
أما الآن، فقد صارت الأمور أسرع بسبب تويتر، مع تلك التقنيات التي تجعل عملاء البنوك في غير حاجة للذهاب إلى مقراتها لسحب أموالهم. فبمجرد ضغطة زر يمكنهم تحويل الأموال من مكان إلى آخر عبر الإنترنت أو من خلال الأجهزة المحمولة. وقد تكون هذه البساطة، التي مكنت عملاء البنك المنكوب من تنفيذ عمليات السحب، أحد أسباب ذلك الانهيار السريع جدًا.
ورغم تحذيرات بعض الشخصيات التكنولوجية البارزة من خلق ذعر وهستيريا جماعية، إلا أن القاطرة كانت قد تحركت، وانهيارات البنوك عمومًا تحدث عندما يفقد العملاء الثقة في قدرة البنك على الاعتناء بأموالهم، فيشرعون في سحب ودائعهم دفعة واحدة. وكلما زاد عدد الأشخاص الذين يسحبون أموالهم، تنخفض احتمالية تمكن البنك من تغطية عمليات السحب.
الإجراء المثالي!
تتلخص المشكلة هنا في تلك العدوى التي لخصها دانيال ديفيز، المدير الإداري لشركة فرونت لاين أناليستس، فيما كتبه بصحيفة فاينانشيال تايمز قائلاً: "إذا رأيت خبيرًا في التخلص من القنابل يجري في الشارع، فلا تسأله عما حدث، فقط حاول مواكبة ذلك الجري"، وهي كلمات تعبر تمامًا عما حدث. فعندما انتشرت التحذيرات تفاقمت حالة الخوف الجماعي لدى المودعين، فتسابقوا لإيقاف هواجسهم وحماية مدخراتهم، بشكل أسرع من قدرة البنك على الاستجابة بنجاح.
يؤكد مسؤولو الشركات المودعة أن الإسراع بسحب الأموال هنا هو الإجراء المثالي. وحسب هؤلاء إذا كنت لا تنصح شركتك بسحب الأموال في ظرف كهذا، فإنك لا تقوم بعملك كما يجب، بينما يتحتم عليك أن تفعل كل ما في وسعك لحمايتها وحماية نفسك، ما يخلق معادلة صعبة وصراعًا لا ينتهي، قد يؤدي إلى المزيد من الانهيارات، أو يتطور بالوصول إلى ما يسمى "لحظة مينسكي"، حيث الانهيار المدوي لقيم الأصول وأسواق المال والائتمان، في ظل ارتفاع مستويات الديون في الأسواق مع الارتفاع الكبير والسريع في نسب الفائدة والتضخم.
يقف الآن صانعو السياسات المصرفية للنظر في الدور الذي أدته وسائل التواصل الاجتماعي في الاضطرابات الأخيرة لبنك SVB على وجه التحديد، والتفكير في ما يمكنهم فعله لتجنب تكرار ذلك أو الحد منه، وهم يسجلون أول انهيار بنكي يعتقدون أن تويتر هو بطله الرقمي الأول، تساعده تكنولوجيا مالية بنكية جعلته أكثر عرضة للانهيار السريع أكثر من أي وقت مضى.
كما أنهم يدرسون الحاجة إلى وضع لوائح مصرفية أكثر صرامة، ربما تكون ضرورية للعصر الرقمي، على الرغم من صعوبة تحقق ذلك في ظل الحرية والتقنيات الحديثة، إذ إن الاتجاه في الخدمات المصرفية يسير نحو تمكين طرق أسرع لتحريك الأموال، في حين أن مسألة وضع حواجز حماية لما يمكن أن يقوله الناس عن الأمور المالية عبر الإنترنت لا يزال أمرًا معقدًا جدًا، حتى وإن كان بعض الخبراء يعتقدون أن مثل هذه الأحاديث تشبه حرائق الغابات التي نحتاج إلى إخمادها بسرعة!