عند الريفييرا الفرنسية، تتمدد إمارة موناكو فضاء يتدثر بملامح نبل كرّسها وجهة تستلب الأفئدة إليها منذ اللقاء الأول. فالإمارة، التي لا تزيد مساحتها اليوم على نحو 510 فدادين، تتجلى مملكة أسطورية مسكونة بألق آسر أفردت له واحاتها الخضراء البهية التي تتدرّج من أعلى نقطة في درب Chemin des Révoires عبر منحدرات جبل مونت أجيل والجروف الصخرية وصولاً إلى صفحة البحر الأبيض المتوسط. هناك حيث بُني ميناء هيركوليس داخل خليج طبيعي، تربض فوق مرتفع صخري إلى الشمال منطقة مونتي-كارلو مشرعة معالم الجذب السياحي فيها، بدءًا من ساحة الكازينو وفندق أوتيل دو باري مونتي-كارلو Hôtel de Paris Monte-Carlo العريق، لتجارب ضيافة ملكية يصعب استنساخها.
في الطريق من مطار نيس إلى موناكو، يحدوني التوق إلى استكشاف مملكة سلالة غريمالدي، التي أزروها للمرة الأولى، في استعادة ما خبّأته ذاكرتي من فصول حكاية أميرتها الأكثر شهرة.
أستعيد تارة مشاهد من فيلم Grace of Monaco (غريس أميرة موناكو) - الذي قدمّه المخرج أوليفييه داهان سنة 2014 وأدت شخصية الأميرة فيه النجمة نيكول كيدمان – وأستحضر طورًا مقتطفات من رواية Meet Me in Monaco (قابلني في موناكو) التي تشاركت في كتابتها الأديبتان هايزل غاينور وهيذر ويب ونُشرت سنة 2019.
في هذه الرواية، يتقاطع الخيال مع الواقع في سياق شكل فيه زفاف النجمة غريس كيلي وأمير موناكو رينييه الثالث سنة 1956 حدثًا رئيسًا توالت فصوله بدءًا من لقائهما الأول خلال مهرجان كان السينمائي، وليس انتهاء بالاحتفالات التي عمّت الإمارة وشملت، إلى جانب حفل الزفاف الرسمي، حفل فطور ملكيًا نُظّم في فندق أوتيل دو باري مونتي - كارلو الذي أوكلت إليه أيضًا مهمة تقديم وليمة العشاء وإعداد كعكة الزفاف.
على خطى أميرة موناكو، أحط الرحال في ساحة الكازينو التي تنبض بالحيوية على مرّ الفصول، وأتسلّق الدرجات نفسها إلى الصرح التاريخي المشرف على المسار الذي تعبره في شهر مايو من كل عام السيارات المشاركة في سباق جائزة موناكو الكبرى.
158 عامًا من التمايز
لكنْ ثمة تاريخ، أقدم بكثير من حكاية جائزة موناكو الكبرى التي بدأت سنة 1929، ما فتئ عبقه يعترش جنبات فندق Hôtel de Paris Monte-Carlo، بدءًا من الردهة الفسيحة حيث مظاهر البذخ في التصميم تحمل بشائر إقامة مترفة سبقنا إليها عبر العقود المتعاقبة كبار رجالات الدول وأبناء الطبقات الأرستقراطية ومشاهير العالم، من ملك بريطانيا إدوارد السابع والكاتب ألكسندر دوما والموسيقار جاك أوفنباخ ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، إلى تشارلي شابلن وسارة برنارد وسلفادور دالي وغيرهم.
عن هذا التاريخ وما قبله يحدّثني آيفن أرتولي، المدير العام للفندق الذي أبصر النور سنة 1864 فوق أرض جرداء كانت تُعرف باسم Plateau des Spélugues. يقول أرتولي: "كانت هذه الأرض كلها بساتين ليمون وزيتون. لكنها تحوّلت، بدعم من الأمير تشارلز الثالث الذي كان يبحث عن سبيل للتخفيف من وطأة الضرائب على البلدة، ومن خلال مساعي مجموعة سوسييته دي بان دو مير في مونتي-كارلو Monte – Carlo Société des Bains de Mer إلى ملاذ لتجارب فاخرة.
آنذاك، أخذ الملياردير ورائد الأعمال الفرنسي فرانسوا بلان على عاتقه مهمة استحداث وجهة لألعاب الحظ تليق بعلية القوم في أوروبا، ثم افتتح مع زوجته ماري هذا الملاذ ليتيح لهم استكشاف الملامح الجديدة للإمارة". ويضيف أرتولي قائلاً: "إنه لأمر مذهل أن نرى اليوم مونتي-كارلو وجهة تنامت من حول فندق وليس العكس". أعقب ذلك بناء دار الأوبرا المحاذية للكازينو سنة 1878، ثم فندق هيرميتاج مونتي-كارلو، ولاحقًا فندق مونتي-كارلو بيتش ومونتي-كارلو باي أوتيل أند ريزورت، وكلها تنضوي تحت مظلة سوسييته دي بان دو مير.
قد يكون المذهل بالقدر نفسه أن المجموعة، التي ابتكرت مفهوم "المنتجع" في مونتي-كارلو، أفلحت أيضًا في الحفاظ على الإرث التاريخي للفندق العريق بموازاة تكريس دوره الريادي في عالم الضيافة من خلال استحداث مستويات جديدة وغير مسبوقة في مجال الخدمة الفندقية المخصصة على قياس الزائرين.
بعد 158 عامًا، يتجلّى هذا المعلم اليوم فضاء تتناغم فيه التقاليد العريقة ومفردات الضيافة التي تليق بعصرنا الحديث. فالفندق أخضع بمرور السنين لأكثر من مشروع تحديث، بدءًا من عام 1909، عندما توجّهت مونتي-كارلو إلى تبنّي الطراز المعماري البديع للحقبة الجميلة Belle Epoque. أما المشروع الأضخم والأحدث لتجديد أوتيل دو باري، فانطلقت عجلته في عام 2014 بكلفة بلغت نحو 250 مليون يورو.
Anthony Lanneretonne
حجرة المكتب في الجناح الألماسي الذي يحمل اسم الأمير رينييه الثالث.
ملاذات باذخة
وأنت تعبر إلى المساحات الداخلية التي تحتجب وراء الواجهة ذات الزخارف المنحوتة بإتقان، والتي عادت تتباهى بأسلوب الحقبة الجميلة، لا يسعك أن تغفل عن براعة المعماريين الشهيرين، الباريسي ريتشارد مارتينيت، وابن موناكو غابرييل فيورا، في إضفاء طابع أكثر حداثة على فندق Hôtel de Paris Monte-Carlo دون المساومة على إرثه الأصيل.
باكتمال مشروع التحديث، الذي استغرق أربع سنوات، والذي تفاوتت مراحله المتعددة بين هدم، وإعادة بناء، وابتكار مساحات جديدة، بات الفندق يحتضن 113 غرفة و96 جناحًا تحتفي كلها بمظاهر فخامة تجسّد حتى في عصرنا الحالي توصيف الشاعر الفرنسي شارل بودلير للفندق بقوله: "لا شيء هناك سوى النظام والجمال والرفاهية والسكينة والبهجة الحسية".
تشهد على ذلك فسيفساء تصميمية متقنة تناغم بين الثريات المصنوعة من زجاج مورانو، والأرضيات المكسوة برخام كالاكاتا الأبيض، وتميزها في فسحات الإقامة ذات التصميم العصري قطع أثاث من الخشب تثريها زخارف من النحاس الأصفر أو الزجاج وتفاصيل من الذهب والبرونز والجلد، فيما الغلبة في الغرف والأجنحة كلاسيكية الطابع لمفروشات بطراز لويس السادس عشر، ومرايا عتيقة الطراز، وأقمشة من المخمل الفاخر. في كلتا الحالتين، تتلاحم الأضداد بثراء ألوانها لتعكس إحساسًا راسخًا بالدفء.
بالرغم من أن هذه الفسحات كلها تليق بتجربة عيش ملكية بامتياز، إلا أن الفندق كشف في فبراير من عام 2018 عن استحداث جناح الأميرة غريس كيلي الذي تستلبك عناصره إلى ذاك الرقي الذي طبع حياتها وشخصيتها.
Bernard Touillon
في جناح غريس كيلي الأعلى تميزًا والممتد على طابقين، كل تفصيل استُلهم من أناقة الأميرة ورقي شخصيتها.
يمتد الجناح الأعلى تمايزًا على ساحل الريفييرا عبر الدورين السابع والثامن حيث يحتل مساحة 910 أمتار مربعة تتزيّن بمعاني الفخامة التي تنعكس في الأثاث المبتكر حسب الطلب، وألواح العقيق، والزخارف المشغولة من عرق اللؤلؤ والخشب الثمين. على امتداد الدورين، تتوزّع حجرتان للنوم، وثلاثة مجالس، وغرفة معيشة وحجرة طعام، وحمّامان جُهز أحدهما بحجرة بخارية، فضلاً عن مكتب رُتبت فيه مجموعة من دواوين الشعر والروايات التي جيء بها من مكتبة الأميرة الخاصة.
كل تفصيل هنا يورّطك في حكايات عن الأميرة التي شكّل الفندق وجهة مفضلة عندها – وفيه احتفلت بالذكرى العشرين لزواجها – على ما تشهد لوحات أبدعتها غريس كيلي بنفسها من بتلات الزهور المجففة، وجدار عاكس في الطابق العلوي خُطت عليه أسماء كتب ألهمتها في الصغر، فضلاً عن صور ورسومات شخصية لها، وباقات من تلك الوردة الزهرية التي تحمل اسمها.
يتكامل الجناح المشرف على أفق موناكو البحري مع فسحات خارجية تمتد على مساحة 440 مترًا مربعًا وتحتضن مسبحًا غير متناه. وعلى ما يليق بعيش الأميرات، يخص الفندق ضيوف هذا الجناح بطاقم خدمة خاص يتولى تنسيق التجارب الحصرية لهم.
في المقابل، يلفت نظرك في الجناح الألماسي الذي يحمل اسم الأمير رينييه الثالث، والذي افتُتح في عام 2019 على مساحة 830 مترًا مربعًا (خُصص منها 350 مترًا مربعًا للشرفات الخارجية حيث المسبح المهيب والإطلالة الآسرة على ساحة الكازينو والبحر الأبيض المتوسط وصولاً إلى أفق فرنسا وإيطاليا الأبعد)، طابع ذكوري بامتياز.
عبر ممر طويل يذكّر بأروقة البلاطات الملكية، ينتهي بك المسير هنا إلى فسحات داخلية يناغم تصميمها بين ألوان حيوية وزخارف ذهبية، وتتوزع في رحابها منحوتات معدنية من ابتكار "الأمير البنّاء"، وصور شخصية، ولوحات أصيلة من مجموعته الشخصية.
Anthony Lanneretonne
تكرّس تدرجات اللون الذهبي مظاهر البذخ في جناح الأمير رينييه الثالث.
السفر إلى النجوم في Hôtel de Paris Monte-Carlo
في أوتيل دو باري مونتي-كارلو، كل تفصيل يرتسم انعكاسًا للحظات ترف ملكي لا ينحصر اختبارها في أماكن الإقامة الباذخة. فذاك المزيج من الانضباط والرفاهية والسكينة والبهجة الحسية الذي أثنى عليه بودلير تستكشفه أيضًا في تلك الكياسة التي يقابلك بها أفراد طاقم الفندق مجسّدين في مقاربتهم توازنًا دقيقًا وغير متكلف بين الحرفية المهنية والبشاشة واللطف.
هذه المقاربة تبدو مكمّلاً عفويًا للولائم المترفة التي يعج بها الفندق. تضم محفظة سوسييته دي بان دو مير 33 مطعمًا وسبع نجوم ميشلان، بينها ثلاث كان Hôtel de Paris Monte-Carlo أول صرح في العالم يفوز بها في عام 1990 من خلال مطعمه الشهير Le Louis XV (لويس الخامس عشر)، هناك حيث تسافر ذائقة خمسين ضيفًا إلى النجوم على صهوة أطايب يبتكرها الطاهي الشهير آلان دوكاس مزيجًا من روائح ومذاقات يصوغ منها مفهوم المطبخ الشرق أوسطي الراقي فيما يستعرض مع الطاهي التنفيذي دومينيك لوري مقاربة خاصة للطهو تضع المكوّن في مركز العملية الإبداعية.
وفيما شمل مشروع إعادة رسم ملامح مونتي-كارلو انتقال خدمة المطعم في مقهى Café de Paris الشهير مؤخرًا من موقعه التاريخي في الطرف المقابل من الساحة إلى رحاب الفندق في قاعة أمبير Salle Empire المهيبة التي ما فتئت تتزيّن بالرسومات الجدارية والزخارف المذهبة، يفتتح الفندق هذا الشهر أيضًا مطعم أم شريف مونتي-كارلو مستقدمًا أصالة المطبخ اللبناني التقليدي إلى فضاءاته.
Bernard Touillon
تمتد الفسحات الخارجية في جناح الأميرة على مساحة 440 مترًا مربعًا متيحة إطلالة آسرة على الأفق البحري.
وبالرغم من خيارات الطعام الوفيرة، إلا أن أحدًا من زوّار الفندق ومونتي-كارلو لن يرغب في تفويت الفرصة لاختبار تجربة العشاء المتمايزة التي يعد بها مطعم Le Grill (لو غريل)، الرابض في الفندق منذ ستين عامًا، متيحًا بشرفته الخارجية إطلالة يتمدد سحرها من الطابق الثامن عبر البحر المتوسط وصولًا إلى كورسيكا.
وأنت تجلس إلى مائدتك في المطعم الذي يزهو بمعالم تصميم بحري أنيق، والذي يتكامل اليوم مع مجلس وينستون تشرشل لتجربة أكثر خصوصية، لا تشرد عن فتنة الأضواء التي تتلألأ بعيدًا في البحر عند سواحل موناكو وفرنسا وإيطاليا أو قريبًا في ميناء هيركوليس حيث تلتمع أنوار اليخوت، إلا لتستزيد من متعة انبهار يحملها إليك تارة سقف المطعم القابل للسحب الذي تزينه لوحة فلكية بديعة، وطورًا موقد حطبي في المطبخ المفتوح تُشوى فوقه لحوم وأسماك محلية سرعان ما تستكشف في طيب مذاقاتها وثراء الصلصات المكمّلة لها اللمسة الإبداعية للطاهي فرانك شيروتي.
في هذا المطعم الذي حاز عام 2019 أول نجمة ميشلان، يصعب ألا تنتهي كل وليمة بحلوى السوفليه المنتفخة الزاخرة بطعم الفواكه الحمراء والشوكولاته التي يؤتى بها من مصنع ألان دوكاس الخاص في باريس.
Hôtel de Paris Monte-Carlo
عندما تطرب الحواس ترفًا في مطعم لو غريل العريق الحائز نجمة ميشلان.
الرفاه المتكامل في Hôtel de Paris Monte-Carlo
شملت أعمال مشروع التجديد الأخير في فندق Hôtel de Paris Monte-Carlo استحداث مزيد من المساحات الخضراء، بما في ذلك فناء Le Patio الداخلي الذي تحتجب في خفاء أشجاره مجالس أنيقة بمحاذاة مجموعة من متاجر كبار صنّاع الجواهر أمثال هاري وينستون، وغراف، وبوتشيلاتي، فضلاً عن النادي الصحي Wellness Sky Club الذي استُحدث فوق السطح على مساحة 370 مترًا مربعًا تكملها فسحات خارجية تضم حوض جاكوزي أقيم في الهواء الطلق. لكن تجارب الرفاه الموعودة هنا ليست حكرًا على هذه الواحة.
فعبر رواق يمتد في طابق سفلي من الفندق، يمكن بلوغ نادي Thermes Marins Monte – Carlo الأكبر من نوعه في أوروبا كلها للرفاه واللياقة البدنية والصحة الوقائية.
Hôtel de Paris Monte-Carlo
فسحة للرفاه الصحي في الطابق الأعلى من الفندق حيث استُحدث نادي Wellness Sky Club.
يمتد النادي، الذي يوفّر إطلالة مباشرة على ميناء هيركوليس والبحر المتوسط، على مساحة 6,600 متر مربع جُهزت بأحدث التقنيات والبرامج العلاجية المبتكرة، بما في ذلك أجهزة العلاج بالتبريد Cryotherapy، وحجرة العلاج البخاري الروسي Banya، وغير ذلك من أساليب علاجية شمولية لتجارب تُعيد إلى الأجسام حيويتها فيما تعزز الشعور بالعافية والسكينة، سواء أكان ما تنشدونه التخلص من الإجهاد، أم محاربة علامات الشيخوخة، أم تعزيز الأداء الرياضي للمحترفين، أم محاربة السمنة.
هنا وفي رحاب مونتي-كارلو كلها، كل تجربة تبدو مصممة على قياس نخبة تثمّن في هذه الوجهة معاني رفاهية لا تشيخ، وتختبر فيها أنسًا تضبط إيقاعاته وفرة أنشطة استجمامية بالغة الفخامة، ومهرجانات فنية وموسيقية، ومناسبات عالمية تكرّست على روزنامة موناكو، من سباق الجائزة الكبرى إلى معرض اليخوت الشهير وبطولة رولكس لكرة المضرب (Rolex Monte – Carlo Masters).