لطالما كانت إيطاليا مهد دور الأزياء العريقة والفاخرة، لهذا حينما أبصرت مجموعة برونيللو كوتشينيللي Brunello Cucinelli النور في عام 1978 سارت على خطى الأجداد ونقشت اسمها بمهارة وفن في عالم الأزياء الراقية لتكون واحدة من أهم العلامات التجارية في قطاع الأزياء والإكسسوارات فائقة التفرد.

رؤية متبصّرة

تحمل الدار اسم مؤسسها الذي ولد عام 1953 في قرية إيطالية صغيرة تدعى كاستل ريجوني Castel Rigone لعائلة من المزارعين. وبالرغم من التحاقه بكلية الهندسة، إلا أنه ترك الدراسة وأسس في الخامسة والعشرين من عمره خط الأزياء الخاص به والذي كان يعتمد في البداية على الملابس النسائية المصنوعة من أجود أنواع صوف الكشمير المصبوغ بألوان مشرقة وعصرية بعكس السائد حينها.

شاهد الشاب الإيطالي الحاذق النجاح الكبير الذي حققته السترات ذات الألوان الزاهية التي كانت تنتجها العلامة التجارية الإيطالية الشهيرة بينيتون غروب Benetton Group، كما لاحظ أن الكشمير كان حبيسًا في الألوان الكلاسيكية الرسمية: الأسود، والرمادي، والبيج. فطن كوتشينيللي إلى أن الجمع بين الألوان المشرقة والكشمير الفاخر مع الحفاظ على أعلى مستويات الجودة سيسمح له بابتكار منتج حصري يرسم لمستقبله في قطاع الأزياء والرفاهية طريقًا لا تغيب عنه الشمس.

مملكة الكشمير التي لا تغيب عنها الشمس

Brunello Cucinelli
إطلالة من المجموعة النسائية لموسم خريف وشتاء 2021.

كشمير فاخر

منذ الظهور الأول اجتذبت كل قطعة من برونيللو كوتشينيللي الجمهور المتأنق الذي يتمايز بذائقة رفيعة، الأمر الذي سمح للمجموعة بالازدهار. ووسط هذا الاهتمام والتقدير، وقعت الدار تحت التأثير الساحر لصوف الكشمير المستخرج من الماعز من سلالة هيركس Hyrcus والذي يتميز بنعومته الفائقة وبأدائه لوظائف التنظيم الحراري ببراعة بسبب سمكه المنخفض للغاية والذي يساوي حوالي 15 ميكرون.

وبات كوتشينيللي يسافر سنويًا إلى جبال منغوليا لشراء أفضل الأنواع مباشرة من المنتجين، ومن هنا ذاع صيت دار الأزياء الإيطالية وأصبحت مملكة الكشمير بلا منازع.

Brunello Cucinelli
ابتكارات فاخرة من مجموعة Brunello Cucinelli Lifestyle لخريف 2021 وشتائه.

آفاق توسعية

وعلى مدار 20 عامًا ظلت العلامة التجارية تركز على إنتاج السترات النسائية، ثم أدخلت ملابس الرجال في تسعينيات القرن العشرين. وبالرغم من امتلاكها لمتجر واحد صغير حينها، إلا أنها باعت في أحد الأعوام ما يقرب من 200 ألف سترة.

ومع ازدياد الإقبال على أزياء كوتشينيللي التي اشتهرت بوصفها ملابس رياضية أنيقة مصممة بحرفية، فكرت الدار بشكل جاد في توسيع نطاقها وأطلقت ما بين أربعة إلى خمسة متاجر لها سنويًا، حتى باتت تمتلك حاليًا أكثر من مئة فرع داخل أهم المراكز التجارية وفي أشهر شوارع التسوق في ما يزيد على 30 مدينة. كما أصبح لديها خط ملابس للأطفال وآخر للإكسسوارات بالإضافة إلى الديكور المنزلي.

عادة ما توصف متاجر برونيللو كوتشينيللي بأنها أقرب للمتاحف الحية التي تضم قطعًا فنية متفردة ومحدودة وعابرة للأزمنة لأنها كشفت سر الجمع بين الابتكار والعمل الحرفي المتقن، إذ تؤمن الدار الإيطالية بأن الأولوية المطلقة يجب أن تكون للجودة العالية والإبداع في مختلف مراحل سلسلة الإنتاج. كما أنه لا غنى عن التكنولوجيا من حيث كونها أداة لخدمة الحرف اليدوية وليست هدفًا في حد ذاتها.

مملكة الكشمير التي لا تغيب عنها الشمس

Brunello Cucinelli
بذلة وحقيبة من مجموعة موسم ربيع 2022 وصيفه.

تصاميم Brunello Cucinelli تتصدى لعاديات الدهر

عند النظر إلى الأزياء الممهورة بتوقيع برونيللو كوتشينيللي، سنلاحظ دومًا أنها صنعت لتبقى ولتتوارثها الأجيال. فالجودة الفائقة للكشمير ونعومته الاستثنائية تقفان وراء قدرته على الصمود عبر الزمن وتضفيان عليه قيمة ثمينة، والفضل في ذلك يعود إلى الدار الإيطالية التي نجحت في استدعاء روح القرن الثامن عشر التي كانت أزياء الملكات فيه مصنوعة بالدرجة الأولى من الكشمير.

بل إن قيمة الأوشحة المصنوعة منه كانت حينها تفوق قيمة عربة الخيل. يُضاف إلى ذلك ما يتمتع به مؤسس الدار، المعروف بلقب ملك الكشمير، من حس ابتكار يهز قواعد المألوف في عالم الأزياء، وهو الذي اضطلع بدور ريادي في تحرير الأناقة من القواعد الصارمة ليصوغ معانيها في تصاميم تناغم بين قطع رسمية وأخرى عملية، وتزاوج بين الفخامة والنأي عن التكلف والبهرجة، هذا التوجه الذي يتبنّاه اليوم كبار المصممين في مجموعاتهم.

مملكة الكشمير التي لا تغيب عنها الشمس

Brunello Cucinelli
إطلالة أنيقة بغير تكلف ضمن مجموعة خريف 2021 وشتائه.

كان ملك الكشمير أيضًا من أوائل المصممين الذين انشغلوا بتقديم ابتكارات تتصدى لعاديات الدهر، وتبنوا مفهوم "أقل ولكن أفضل". يقول كوتشينيللي في هذا السياق: "إن التصميم الإيطالي يركّز على تلك الميزة التي تتيح لك ارتداء قطع الملابس نفسها عامًا تلو الآخر.

يمكن تحقيق الاستدامة بطرائق مختلفة، لكني أعتقد أن التصميم الذي يعلو فوق التوجهات الآنية ويحافظ على استمراريته بمرور السنين يبقى عنصرًا أساسيًا لتحقيق هذه الغاية".

مملكة الكشمير التي لا تغيب عنها الشمس

Brunello Cucinelli
بذلة للسهرات والمناسبات من مجموعة خريف وشتاء 2021.

يُذكر أن قطع برونيللو كوتشينيللي لا تنفك تحظى باستحسان واسع النطاق في أوساط الأثرياء وكبار المديرين في سيليكون فالي. فالقمصان السوداء ذات الياقة الدائرية التي لم يتخل عنها قط الراحل ستيف جوبز، مؤسس أبل، كانت تُصنع خصيصًا له من قبل الدار الإيطالية، والأمر نفسه ينطبق على القمصان الرمادية المميزة التي يرتديها دائمًا مارك زوكربيرغ مؤسس موقع فيسبوك والرئيس التنفيذي لشركة ميتا Meta.

الراحل ستيف جوبز

ستيف جوبز، الذي اعتاد الظهور بكنزة سوداء من برونيللو كوتشينيللي.

فلسفة Brunello Cucinelli متكاملة من أجل الإنسان

إن تفرد دار برونيللو كوتشينيللي ليس نابعًا فقط من اعتمادها على الكشمير فائق الجودة بالدرجة الأولى، أو من حس الابتكار والإتقان في الحياكة، إنما أيضًا من منظومة عملها القائمة على فلسفة تحتفي بالإنسان وتضعه في مركز كل شيء، وهي استراتيجية غزل خيوطها بإتقان المصمم الملقب بالفيلسوف الذي يؤمن بأهمية تحقيق المجموعة للأرباح من أجل مواصلة مسيرتها لكن دون المساس بحقوق القوى العاملة التي منحته وقتها وطاقاتها الإبداعية.

Brunello Cucinelli

المصمم الفيلسوف برونيللو كوتشينيللي.

باختصار، يبتنى كوتشينيللي نهجًا فلسفيًا يركّز على القيم الأساسية مثل الوقت، والبيئة، والعائلة، والكرامة الإنسانية، مختزلًا هذه الفلسفة في فكرته المتمايزة عن الرأسمالية الإنسانية التي يبني عليها إبداعه والمنظومة الأخلاقية التي يحتكم إليها في داره.

ولكي تعزز دار برونيللو كوتشينيللي المواهب الفردية التي لا غنى عنها لتحقيق نمو متوازن ودائم، يحظى العاملون فيها بمزايا استثنائية أولها الحصول على رواتب تزيد بنسبة 20% على متوسط ما يحصل عليه الآخرون في صناعة الأزياء. كما يتضمن يوم عملهم استراحة غداء لمدة 90 دقيقة ويتعين على الجميع الحصول عليها.

وينبغي لهم أيضًا مغادرة المؤسسة بحلول الساعة الخامسة والنصف مساءً، وقطع صلتهم بكل الأمور المتعلقة بالعمل وعلى رأسها البريد الإلكتروني في أوقات الراحة وعطلة نهاية الأسبوع ليتمكنوا من شحن حسهم الفني والإبداعي ومواصلة عملهم بشغف، وهو أمر قد يقف وراء تضاعف حجم العلامة التجارية الإيطالية أربع مرات خلال عقد من الزمان

مملكة الكشمير التي لا تغيب عنها الشمس

معقل الدار في قرية سولوميو التراثية.

تتخذ Brunello Cucinelli منذ عام 1985 من قرية سولوميو Solomeo الإيطالية وقلعتها الشهيرة التي تعود إلى العصور الوسطى مقرًا لإمبراطوريتها لتتولى مهمة حماية التراث الجمالي بمختلف أشكاله ونقله إلى الأجيال المقبلة، ولتكون القلب النابض الذي يتبع إيقاعات الطبيعة ويستلهم من بهائها وسحرها تصاميم يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.

وقد تولت الدار تنمية المجتمع المحيط بها عبر إعادة رصف الطرق، وإحياء مزارع الكروم، وإقامة مسرح على طراز القرن السادس عشر، وإنشاء صالات رياضية، وتأسيس مكتبة ومدرسة لتعليم الفنون والحرف وإعادة اكتشاف الأعمال اليدوية وحمايتها من الاندثار لتكون بحق حصنًا للموضة والثقافة والفن.