كانت أحلام جون جاكوب أستور الرابع برّاقة، تماماً مثل حياته الخاطفة المليئة بالحكايات والإنجازات، فقد حمل جون فكراً خاصاً سبق عصره في نواحٍ عدة. ولم يكتف جون بكونه الثري سليل العائلة الموسرة، أو رجل الأعمال الناجح أو القائد العسكري أو المخترع المتميز.

بل إنه سعى إلى أن يضع بصمة مميزة في الحياة كما يحب أن يختبرها هو والآخرون، فكان فندق سانت ريجيس St. Regis الذي ساهم في تطوير مفهوم الحياة الفاخرة حول العالم لأكثر من 117 عاماً. فما هي قصة هذا الفندق؟

الفندق الأغلى

بدأت القصة في مطلع القرن العشرين، وبالتحديد في عام 1904، عندما وضع جون جاكوب أستور الرابع حجر الأساس لبناء فندق سانت ريجيس، مجسدًا شغفه بالفخامة وقدرته على استقطاب كبار الشخصيات في مدينة نيويورك الأمريكية.

اختار جون جاكوب أستور بعناية الموقع الأكثر تميزاً بالقسم السكني من المدينة آنذاك، عند زاوية الجادة الخامسة والشارع الخامس والخمسين، وتجسد بناء الفندق في عام 1905 أطول مبنى فندقي بنيويورك، بارتفاع بلغ 19 طابقاً، وبتكلفة تجاوزت 5.5 مليون دولار.

ولم يدخر المؤسس أي جهد أو أموال في سبيل تحقيق حلمه، وتوفير أقصى درجات الفخامة والرقي في فندقه الأغلى، إذ اهتم بأدق التفاصيل وأبسط الأشياء، ساعيًا إلى تكريس فندق سانت ريجيس الأكثر تميزاً ورقياً وفخامة بمقاييس ذاك الزمن، بل بمقاييس المستقبل أيضاً.

فندق سانت ريجيس نيويورك

The St Regis New York

استُقدمت آنذاك كسوة الأرضيات والممرات الرخامية من محاجر كاين الأشهر، فيما استُحضر الأثاث طراز لويس الخامس عشر من فرنسا، والثريات من علامة كريستال ووترفورد الأيرلندية لتتكامل مع السقوف المزخرفة، والسجاد الشرقي الساحر، والمدافئ الكبيرة التي تعيدك إلى عصور الفخامة الإمبراطورية. كما احتضن الفندق مكتبة تحتوي على نحو ثلاثة آلاف كتاب مغلف بالجلد ومزخرف بالذهب، وتمايز بمدخل مهيب من الأبواب البرونزية المصقولة والألواح الخشبية النادرة.

فندق سانت ريجيس نيويورك

The St Regis New York

كان جون جاكوب أستور سبّاقًا أيضًا في اعتماد مزايا وتجهيزات لم تكن قد وجدت طريقها بعد إلى قطاع الضيافة. فكل غرفة إقامة في فندق سانت ريجيس جُهزت بهاتف، وهو أمر لم يكن معتادًا في ذلك الوقت.

كما استحدث الفندق نظامًا خاصًا لتنقية الهواء والتخلص من الغبار، ليوفر بذلك هواءً نقيًا دافئًا أو مبردًا، حسب ما يتطلبه الطقس في مختلف أنحاء المبنى، وكان ذلك قبل البدء في إنتاج اختراع المهندس ويليس كارير لمكيّفات الهواء.

وربما لكل هذا السحر والتميز كان سعر الإقامة في الفندق عند افتتاحه يساوي خمسة دولارات لليوم الواحد، وهو مبلغ ضخم بمقاييس تلك الحقبة، الأمر الذي جعل الصحافة آنذاك تصف فندق سانت ريجيس بأنه "أغلى فندق في العالم"، مثنية على تصميمه الباذخ ومستوى الخدمات الرفيع الذي يوفره للضيوف.

فندق سانت ريجيس نيويورك

The St Regis New York

الرحلة الأشهر

ارتبط اسم الكولونيل جون جاكوب أستور مؤسس فندق سانت ريجيس بعدد كبير من القصص الأسطورية التي ربما ساهمت في بناء شهرة الفندق ومؤسسه حول العالم، مثل تلك الحكايات التي شاعات حول مساهماته العلمية والعسكرية والمادية في ميدان المعارك، حتى حصوله على رتبة الكولونيل بالجيش الأمريكي.

ولكن القصة الأشهر، بين مختلف قصص الكولونيل العاشق للفخامة، هي تلك التي ارتبطت برحلة جون الأخيرة على متن سفينة تيتانيك التي غرقت في منتصف إبريل من عام 1912، على إثر اصطدامها بجبل جليدي. فقد اضطر جون إلى أن يتخلى عن مقعده على قارب النجاة لإنقاذ زوجته، لتنتهي رحلته في عمر ثمانية وأربعين عامًا، قضاها بين الفخامة والرقي والقصص المثيرة والإبداع.

لكن فندق سانت ريجيس لم يفقد سحره الأسطوري برحيل المؤسس، بل تطور بخطى ثابتة، مستعينًا بأفضل الخبرات في مختلف المجالات، فتعددت فروعه وتوسعت حول العالم ليتكرس اسم سانت ريجيس من حيث كونها علامة فندقية ينضوي تحت مظلتها عدد كبير من الفنادق والمنتجعات الأكثر تميزًا حول العالم.

ورغم تناقل ملكية الفندق في نيويورك على مدار الأعوام المائة الماضية بين شركات مختلفة، إلا أن العلامة عملت دومًا على تطويره دون الابتعاد عن فلسفة مؤسسه، إذ تمسكت بخطها الواضح في صنع معاني الرفاهية. بل إن المبنى الأيقوني في نيويورك ما فتئ يشكل نصبًا تذكاريًا يشهد على الفخامة والرقي لكل من ساهم في بنائه.

وقد درست لجنة الحفاظ على معالم مدينة نيويورك مبنى سانت ريجيس التاريخي من مختلف النواحي، فأعلنت في عام 1988 أنه مبنى ذو طابع تاريخي وجمالي خاص بين معالم نيويورك.

 الكولونيل جون جاكوب أستور مؤسس فندق سانت ريجيس

The St Regis

أهداف واضحة

قد يعيد هذا الإعلان إلى الأذهان ما نشره رودولف م. هان، مدير عام سانت ريجيس، في عام 1905 تزامنًا مع افتتاح الفندق. ففي كتاب ترويجي حول الفندق، قال هان: "عند الكتابة عن فندق سانت ريجيس، من الضروري أن نتذكر أننا لا نتعامل مع فندق تقليدي، ولكن مع حل مشكلة اجتماعية فرضتها علينا ظروف اليوم.

فالفندق كان من قبل يشير إلى مأوى للمسافرين فحسب، فيما ينبغي للفنادق اليوم أن تأخذ في الحسبان الأشخاص الذين يمتلكون منازل رائعة، ولكن يجدون في كثير من الأحيان أنه من المناسب إغلاق منازلهم لأسبوع أو لبضعة أشهر".

وإذا تصفحنا الكتاب سنكتشف أن فندق سانت ريجيس كان يسعى منذ البداية لتحقيق أهداف واضحة، كان في مقدمتها تغيير أو تطوير مفهوم الحياة الراقية، والبحث عن الدرجة الأعلى من الفخامة، فضلاً عن تغيير شكل الضيافة الفندقية ومفهومها الذي كان سائدًا آنذاك، وذلك من خلل توفير مختلف أسباب الراحة والتميز لهؤلاء الذين يودون أخذ إجازة ممتعة من حياتهم المنزلية بشكلها التقليدي، دون التضحية بمعاني الفخامة والرقي، وهو النهج نفسه الذي سارت عليه مختلف فنادق سانت ريجيس حتى يومنا هذا، لتجذب أشهر الأسماء حول العالم.

The St. Regis Maldives Vommuli

The St. Regis Maldives Vommuli

آفاق التميز

أبصرت علامة سانت ريجيس النور في الحقبة الذهبية، ونجحت في أن تكرّس حضورها على امتداد الكرة الأرضية من خلال محفظة واسعة من الفنادق والمنتجعات. ومن المخطط له أن يشهد العام المقبل إضافة جديدة تتمثل بافتتاح فندق سانت ريجيس شيكاغو ليشكل الوجهة رقم 56 للعلامة في عالم الضيافة الراقية.

سبق عصره وطور مفهوم الحياة الراقية.. فندق St. Regis و117عاماً من الفخامة

The St Regis Chicago

لكن المضي نحو المستقبل لا يقتصر على مشاريع التوسّع وافتتاح وجهات فندقية جديدة، بل يتعداها إلى استحداث تجارب ضيافة تخاطب الجيل المستقبلي من نخبة المسافرين وتتجاوز مستوى توقعاتهم ولكن من دون المساومة على إرث عائلة أستور العريق. فبغض النظر عن الوجهة المقصودة، لا يمكنك أن تغفل عن الحضور الراسخ لهذا الإرث، بداية من معالم الهندسة المعمارية والتصاميم الداخلية الرائدة، وليس انتهاء بطقوس سانت ريجيس الشهيرة، لا سيّما تقاليد شاي بعد الظهيرة، والمستوى الخدمي الرفيع الذي يتكامل بخدمة المساعدين الشخصيين المتاحة للضيوف.