لقد مرّت 36 ساعة مرهقة منذ اقتحمنا العاصفة وبدأت السفينة تهتز وتصدر صريرًا. تأرجحنا من ميمنة السفينة إلى ميسرتها، بينما كنت مستلقية في سريري أتقلّب بين هدهدة تدخلني في نوم هادئ ولحظات شعرت فيها كما لو أنني أطفو فوق الفراش. بحلول الصباح، وجدت آلة صنع القهوة على الأرض وطاولة ثقيلة محشورة إلى جانب سريري.
لكن مثل هذه الوقائع المفزعة مألوف في ممر دريك Drake Passage، وهو مسطح مائي معروف بوعورته، يقع بين طرف أمريكا الجنوبية وجزر جنوب شيتلاند في القارة القطبية الجنوبية.
ويُعرف هذا الممر أحيانًا باسم بحيرة دريك (عندما يكون الطقس لطيفًا) أو خضّة دريك Drake Shake، عندما يكون الطقس أقل لطفا. على مدار 48 ساعة متواصلة، تقاذفت الأمواج العملاقة التي وصل ارتفاعها إلى 30 قدمًا سفينتنا "مينيرفا" Minerva، التابعة لشركة سوان هيلينيك Swan Hellenic. تمسك الركاب بالحواجز وهم يترنحون بين ممرات السفينة.
كان بعضهم مصابًا بدوار البحر إلى درجة أنهم لم يغادروا مقصوراتهم الفاخرة. أما أنا، فوجدت ملاذا في حجرة البخار المقابلة للبحر، حيث شاهدت الأفق يعلو وينحدر، وكنت أشعر بالغثيان بين الفينة والأخرى.
إن الإبحار عبر ممر دريك، كما فعل المستكشفون لقرون عدة على متن سفن عتيقة (بلا وسائل راحة ولا تقنيات حديثة مثل المُثبّتات التي تُجهز بها سفن اليوم، مثل سفينة مينيرفا)، أشبه بطقوس مرور إلى القارة القطبية الجنوبية. لا يجعل هذا الوصول إلى القارة البيضاء أحلى فحسب- كأنك استحققته حقيقة - ولكنه يُعدّك أيضًا لبيئة يمكن أن تكون عدائية وقاسية بقدر الرحلة البحرية التي أوصلتك إلى هناك.
سفينة صديقة للبيئة
تُعد القارة القطبية الجنوبية وجهة قصيّة وغير مضيافة إلى حد أنه لا يمكن للمسافرين زيارتها إلا في أشهر محددة من العام عند حلول فصل الصيف في نصف الكرة الجنوبي، وقبل أن يتجمد كل شيء.
ومع ذلك، يتزايد الاهتمام بهذه الوجهة النائية. فقد أصبح الوصول إليها أسهل بكثير، بسبب عمليات الطيران والرحلات الجوية-البحرية (تأخذك طائرة إلى القارة، حيث تركب إحدى السفن البحرية)، بالرغم من أن تعذّر الهبوط في الأحوال الجوية السيئة يفرض تحديًا.
كما أننا نشهد طفرة في عدد السفن الاستكشافية الأنيقة المراعية للبيئة. وفي هذا يقول جوناثان برونغر، الخبير الاستشاري في سكوت دان Scott Dunn في أمريكا الجنوبية، الشركة المتخصصة في السفر التي تولت رسم مسار رحلتي إلى القطب الجنوبي: "ثمة ميل إلى بناء سفن جديدة مزودة بأحدث أنظمة الدفع والأنظمة الهجينة وأنظمة استهلاك الوقود الأشد كفاءة للسفر خصوصًا إلى هذه الوجهة".
تنتمي سفينة مينيرفا، التابعة لشركة سوان هيلينيك، وهي سفينة رحلات سياحية فاخرة تتسع لما مجموعه 152 راكبا دُشّنت في أواخر العام الماضي، إلى هذا الجيل الجديد من السفن.
وقد جُهزت مينيرفا بنظام دفع هجين بقدرة 5 ميغاواط يعمل بالديزل والكهرباء، يزيل أكسيد النيتروجين ويحرق الديزل منخفض الكبريت، الذي يحتوي على نسبة ضئيلة من ثاني أكسيد الكربون.
أما هيكلها المقوّى، فمصنّف في الدرجة الخامسة على مقياس القدرة على اكتساح الطبقة القطبية PC5، ويحمل على متنه نظامًا متطورًا لإدارة النفايات، ومختبرًا لإجراء البحوث العلمية مستقبلاً. ولكن قد يكون أكثر ما يلفت النظر في هذه السفينة هو مقاربتها الشمولية لمفهوم السفر إلى القارة القطبية الجنوبية بطريقة أكثر مسؤولية.
ذلك أن الحد من حرق الوقود أو استخدام كميات أقل من البلاستيك يشكل جزءًا واحدًا فقط من الحل.
Swan Hellenic
يتأمل الركاب فيلة البحر وهي تتقاتل على سبيل المرح في نقطة هانا في جزيرة ليفينغستون.
صوت مؤثر أم اهتمام مؤقت؟
يرى بعض ركّاب هذه السفن في الإبحار إلى القارة القطبية الجنوبية فرصة لرؤية الطيور النادرة واستكشاف مظاهر الحياة البرية التي تستوطن المنطقة. لكن ثمة ركابًا لا يرون فيها أكثر من رحلة بحرية أخرى إلى وجهة يمحونها من قائمة أمنياتهم. أما المؤسف، فهو أن عددًا متناميًا من المتشائمين يأملون في رؤية القارة القطبية الجنوبية قبل تلاشيها أو تدميرها بسبب السياحة المفرطة، وهذه فرضية غير مستبعدة.
في ظل غياب القيود على عدد الأشخاص الذين يمكنهم السفر إلى القارة القطبية الجنوبية (بالرغم من فرض قيود على الأماكن التي ترسو فيها السفن وعدد الزوار المسموح بنزولهم في مناطق ساحلية معينة في وقت واحد)، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه هو إذا ما كانت هذه القارة النائية توشك أن تنتهي إلى مصير مدينة البندقية نفسه.
فعندما يتعلق الأمر بوجهة نظامها البيئي الهش والبِكْر، وحيث يمكن لتلاقي البشر أن يخلف تأثيرات عميقة، ينبغي للمرء أن يتساءل: هل السفر إلى هناك فكرة سديدة؟
يُعد هذا الموضوع شائكًا ويشكل مادة لنقاشات مستمرة. يُسلّم كثيرون بأن أولئك الذين يزورون القارة القطبية الجنوبية يصبحون سفراء لمكان ليس به سكان أصليون يتحدثون نيابة عنه.
ويقول برونغر: "ليس للقارة القطبية الجنوبية صوت يمثلها على ما هو عليه حال وجهات أخرى في العالم. لذا فإن السفر إليها يفضي إلى تجنيد مُشرفين صوتهم مسموع. وزد على ذلك أن هذا يُفيد المنطقة من الناحية الاقتصادية وينمّي الاهتمام بها، حتى لا تبقى هويتها محصورة بالبحث العلمي ومصائد الأسماك".
ويتبنّى الحجة نفسها باتريك وودهيد، مؤسس وايت ديزيرت White Desert، الشركة المتخصصة في البعثات الاستكشافية والتي تنقل الضيوف من كيب تاون إلى القارة القطبية الجنوبية على متن طائرة خاصة ليمكثوا في مخيمات فاخرة صديقة للبيئة.
يقول وودهيد: "إذا استطعت جلب الناس بطريقة مسؤولة، فإنك تفتح مداركهم على واقع الأمور. ويعني هذا أنهم سيظلون متحمسين إلى الأبد للحفاظ على القارة". ويضيف أن ضيوفه غالبًا ما يكونون أشخاصًا لا تُعوزهم الموارد، المالية والسياسية والفكرية، ليؤثروا بشكل كبير في مستقبل القارة القطبية الجنوبية. (ملاحظة: قادت شركة وايت ديزيرت مجموعة من الأعضاء المسجلين في برنامج العضوية RR1، التابع لمجلة Robb Report، في رحلة إلى القارة القطبية الجنوبية استغرقت ثمانية أيام في شهر يناير).
Swan Hellenic
سفينة مينيرفا وبعض القوارب السريعة في مرسى نيكوNeko Harbor.
لا شك في أن لما سيحدث مستقبلاً لهذه القارة أهمية بالغة. يقول سيب كولتهارد، المؤرخ والمهندس ومساعد قائد بعثة استكشاف القارة القطبية الجنوبية التي تقودها شركة سوان هيلينك: "تعتمد جوانب كثيرة من حياة سكان النصف الشمالي من الكرة الأرضية على ما يحدث هنا"، وهو يصف القارة القطبية الجنوبية بأنها "أكبر مصنع للطقس في العالم".
فلهذا النظام البيئي بأكمله تأثيرات عالمية، ابتداء من الملح الناتج عن ذوبان الجليد والذي يدفع التيارات البحرية، ووصولاً إلى أقسام الجليد التي تحتوي على تفاعلات كيميائية عمرها آلاف السنين.
وعلى عكس القطب الشمالي الذي يتدهور حاله أسرع، فإن القارة القطبية الجنوبية والمياه المحيطة بها محمية بموجب معاهدة أنتاركتيكا (Antarctica Treaty)، وهي مجموعة من الاتفاقيات التي وقعتها 12 دولة كان ينشط علماؤها على يابستها في عام 1959.
لكن دلائل تغير المناخ آخذة في التفاقم، فالجليد البحري آخذ في الذوبان والأنهار الجليدية تتكاثر وأعداد بعض الأنواع الحيوانية، مثل بطريق آديلي، تتضاءل بسبب تغير طبيعة مواطنها.
بحلول عام 2048، عندما تخضع أجزاء من المعاهدة للمراجعة، لا أحد يدري ما هي الموارد الطبيعية التي سيتنافس العالم عليها هنا. قبل أقل من قرن، كانت تجارة صيد الحيتان مزدهرة، فكان اللون الأحمر يغطي خليج القارة، وكادت الحيتان أن تنقرض.
وما يزال الدليل أمام أعيننا إلى يومنا هذا. فالعظام العملاقة متناثرة على الشواطئ، ومباني محطات صيد الحيتان القديمة لا تزال قائمة.
يقول كولتهارد، الذي يعتقد أن زائري القارة سيتحفزّون لممارسة الضغط من أجل الحفاظ عليها: "لا يهتم الناس بما يجهلونه، بل بما يحبونه". ويضيف: "إن أغلب الأشخاص الذين يسافرون إلى هنا قادةٌ في القطاعات الصناعية ومهندسون وأصحاب نفوذ".
ولكن، بغض النظر عن هويتك أو طريقة سفرك إلى القارة البيضاء، فإنك تخلف أثرًا. ويبدي بعض الخبراء ارتيابًا في تأثيرنا المتزايد وفي ما إذا كانت السياحة في هذه الوجهة ترتكز إلى تشريعات كافية.
هذا ما هو عليه حال ريكاردو رورا، الحاصل على شهادة الدكتوراه والمتخصص في المناطق القطبية والمستشار الأول لتحالف أنتاركتيكا والمحيط الجنوبي ASOC (وهي منظمة غير ربحية تراقب الشؤون الطارئة على المنطقة، بما في ذلك السياحة) والذي سبق له العمل باحثًا ومحاضرًا على السفن في القارة القطبية الجنوبية.
فهذا الباحث غير مقتنع تمامًا بأن الزائرين يتحفزون لقضية القارة عند عودتهم إلى ديارهم، وهو يقول: "لم أشعر يومًا بأن الأشخاص الذين يأتون إلى هنا يصبحون 'سفراء' كما تسميهم صناعة تنظيم الرحلات. فالواقع أن الناس يزورون وجهة ما، ويهتمون بها، ثم يتلاشى اهتمامهم ويمْضون إلى الوجهة التالية".
Swan Hellenic
بطريق جنتو.
افتتان من النظرة الأولى
لفهم وجهات النظر هذه على نحو أفضل، كان ينبغي لي أن أزور المكان، وهذا ما حدث إذ وجدت نفسي في رحلة لمدة أسبوعين على متن سفينة مينيرفا، جنبًا إلى جنب مع ركاب من جميع أنحاء العالم.
كان بعضهم قد حجز الرحلة في اللحظة الأخيرة في حين قرر آخرون مسبقًا أن يحققوا حلما لطالما راودهم. لم يكن جمع المسافرين تقليديًا، فقد ضم مزيجًا من مغامرين متمرسين ومسافرين رفيعي المستوى.
وبعد يومين من العواصف الثلجية التي لم يبد خلالها أي أثر لليابسة، لمحنا أخيرًا أول الجبال الجليدية، ثم المحيط الساكن ورقعة يعلوها البياض، برزت من ورائها جبال شاهقة.
تفرقت الغيوم وانعكست أشعة الشمس على القمم، واندفعت طيور البطريق في الماء، وراحت الحيتان تقفز إلى السطح. كان الأمر كما لو أنني وقعت في حفرة، ومنها إلى قصة خيالية.
لا أدري إن كان ممر دريك قد جعلني مشوشة، وبصراحة كنت ممتنة لأننا ننساب على مياه هادئة، لكنني لم أستطع مسح الابتسامة عن وجهي. كان افتتانًا من النظرة الأولى.
أبحرنا إلى المناطق المخصصة للهبوط والجزر المحددة، جنوب الدائرة القطبية الجنوبية، ثم عدنا وعدّلنا مسارنا عندما تغير الطقس بين عشية وضحاها. انطلقنا عبر قناة لومير Lemaire Channel الرائعة، المحاطة بجبال منحدرة مثل جبال الأنديز (تنتمي من حيث المبدأ إلى النطاق نفسه)، وشاهدنا مستعمرات بطريق جنتو، كما تسلقنا جبلاً ووجهنا أنظارنا إلى أميال وأميال من الثلج والبحر والجليد.
وأنا على متن قارب سريع من طراز Zodiac، رُحت أنظر بإعجاب إلى جبل جليدي شاهق وشاهدت كيف باغت أحد نمور البحر بطريقًا والتهمه بسرعة. بل إني غطست في مياه قطبية درجة حرارتها -1 درجة مئوية. لم يسبق لي في حياتي أن زرت مكانا بهذا الجموح والقساوة.
علمت فورًا أننا كلنا في القارة القطبية الجنوبية لسنا سوى مراقبين. تقضي طيور البطريق أيامها غافلة عن وجودنا، ويتقلب الطقس على حين غرة، وهو ما يضطرنا إلى تغيير مسار رحلتنا، وتسد قطع الجليد بصرامة القنوات التي تحتاج القوارب إليها للعبور.
لا شيء سهل أو مُؤات في القارة القطبية الجنوبية، لكن هذا وجه من أوجه جمالها. قبل السفر على متن سفينة مينيرفا، لم أتطلع قط إلى زيارة هذه الوجهة القصيّة. لم أكن أرى فائدة في السياحة إلى هذه القارة لأن المقابل بدا لي غير ملموس على نحو بيّن، مقارنة ببيئات هشة أخرى مثل جزر غالاباغوس أو آسيا الوسطى أو أنحاء من إفريقيا، حيث تمول دولارات المسافرين في حالات كثيرة محميات الحياة البرية والمتنزهات الوطنية وجهود الحماية والمجتمعات المحلية.
سافرت إلى تلك الوجهات كلها وعاينت عن كثب التأثير الإيجابي الذي يمكن أن يحدثه المسافرون. في جزر غالاباغوس، شاهدت كيف تضطلع السياحة بدور رئيس، وإن تخللته بعض الصعوبات، في حماية الأرض والمياه ودرء الصيد الجائر من خلال إنشاء اقتصاد مرتبط بالحفاظ على الحياة البرية.
في جنوب إفريقيا، لاحظت كيف يُوظَّف أناس من المجتمعات الريفية، وتُبنى المدارس، وتُموّل وحدات مكافحة الصيد الجائر. في آسيا الوسطى، رأيت كيف ساعدت السياحة في حماية نمور الثلج المهددة بالانقراض وتوفير فرص عمل على الصعيد المحلي.
Swan Hellenic
صورة جوية للقوارب السريعة التابعة لسفينة مينيرفا وهي تبحر عبر القطع العائمة والمجمدة المعروفة باسم شظايا الجليد في الممر الفرنسي، حيث يمكن للمسافرين مشاهدة الفقمات آكلة السرطان وطيور البطريق والحيتان الحدباء.
ممارسات مسؤولة
يعيد العديد من الشركات التي تنظم رحلات إلى المناطق ذات البيئات الهشة النظر في الطرق التي نسافر بها إليها. حَسَب مثلاً بهزاد لاري، مؤسس شركة فويجر Voygr ورئيسها التنفيذي، وهي شركة تنظم رحلات استكشافية فاخرة لرؤية نمور الثلج في جبال الهيمالايا وأماكن أخرى من آسيا، البصمة الكربونية لمؤسسته ووضع حدودًا لا ينبغي لها تخطيها لتفادي الإضرار بالبيئة، حتى وإن عنى ذلك تضييق نطاق رحلاته.
في المخيمات التي يبيت فيها القادمون لرؤية نمور الثلج في شمال الهند، حيث المياه شحيحة، أضاف لاري مراحيض دافقة ومِرشّات إلى ثلاثة أجنحة فقط من الأجنحة التسعة (المجهزة كلها بملاءات فاخرة وخدمات ممتازة).
لم تتخذ شركة Voygr هذه الخطوة لأنها لم تستطع تحمل التكاليف المادية، ولكن لأن التكلفة البيئية جد هائلة. ويعلق لاري على هذا قائلاً: "هل يمكننا إضافة برك سباحة لا متناهية بأحواض جاكوزي؟ نعم، بإمكاننا ذلك.
لكن تخيل حجم الطاقة التي سنستهلكها في بيئة كهذه، وكمية الديزل التي سنضطر إلى حرقها لتشغيل المولدات الاحتياطية، والمساحة التي سنضطر إلى شغلها لرصف الألواح الشمسية. هل يمكننا أن نرفع السعر مقابل هذه الخدمات كلها؟ بالتأكيد. لكن هل هذا هو الأمر الصائب الذي ينبغي علينا فعله؟ لا". تدرك شركة وايت ديزرت أيضًا تداعيات السياحة المفرطة، لذا ترسل نحو 250 شخصًا فقط بالطائرة إلى القارة القطبية الجنوبية كل سنة.
وفي متنزه كروغر الوطني Kruger National Park بجنوب إفريقيا، أصبحت علامة سينغيتا Singita تعتمد على الطاقة الشمسية، وهو ما حدّ من اعتمادها على مولدات الديزل بنسبة تجاوزت النصف.
على العموم، فإن المسافرين الذين يقصدون وجهات بعيدة يذهبون إليها خصوصًا لاختبار هذه المغامرة، وليس بغرض الاستفادة من أحواض الغطس والملاءات الفاخرة.
تقول دولوريس غانغوتينا دي دييز، مؤسسة شركة كوازار إكسبيديشنز Quasar Expeditions، الناشطة في جزر غالاباغوس: "إنك لا تذهب للإبحار على متن القارب الفخم فحسب، بل لاختبار هذا النوع من التجارب أيضًا".
فهنا تكمن الفخامة: في ندرة الوصول إلى الوجهة. يحظى نحو 50 ألف شخص بامتياز زيارة القارة القطبية الجنوبية كل عام، سواء عن طريق السفن أو الطائرة أو الرحلات الجوية-البحرية.
وإذا كانوا يزورونها على متن سفينة مينيرفا، فإنهم لن ينعموا بالحصرية فحسب، بل سيتمتعون بأجنحة فسيحة بها شرفات وخدمة من فئة خمس نجوم. وتسمح سعة السفينة المحددة عند 152 ضيفا (تستوعب بعض السفن ما يصل إلى 500 شخص) للركاب بالنزول في عدد أكبر من المواقع على الشاطئ، فضلاً عن قضاء وقت أطول مع المرشدين وعلماء الطبيعة.
في حين تتبنى شركات تنظيم الرحلات تكتيكات أكثر مسؤولية، يشيع اعتقاد بأنه ينبغي للضيوف، بالمثل، تغيير أنماط سفرهم عند دخولهم البيئات المهددة حول العالم. ويدعو دايف ويلسون، رئيس وحدة التطوير التجاري في منظمة أفريكان باركس African Parks، وهي منظمة غير حكومية تدير المتنزهات والمحميات الوطنية في مختلف أنحاء القارة، إلى فرض رسوم أكبر على الزوار الراغبين بدخول هذه المناطق. يقول ويلسون: "كانت رسوم زيارة المتنزهات ورسوم الامتياز رخيصة لزمن طويل، ولذلك نادراً ما كانت تكفي لتشغيل المتنزه".
كما يقترح أن يقضي المسافرون وقتًا أطول في وجهة واحدة، بدلاً من القفز من بلد أو متنزه إلى آخر، لأن الإبطاء يتيح فهمًا أعمق للمكان ويؤثر في آخر المطاف على الزائر بشكل أكبر. وهو يضيف قائلاً: "يتعلق الأمر بقضاء عدد أقل من الأشخاص وقتًا أطول".
وعلى ما يقول، "بالإمكان تحقيق الإيرادات نفسها، ذلك أن الأمر يعتمد حصريًا على أسلوب الترويج للفكرة". بطبيعة الحال، في القارة القطبية الجنوبية، حيث تستمر الرحلات البحرية قرابة شهر، لا يتقافز المسافرون من مكان إلى آخر.
ولكن ريكاردو رورا يأمل أن يُصحح الزائرون توقعاتهم لتكون أكثر منطقية، ويقول: "يود الركاب أن يروا في غضون 10 أيام ما لن يراه علماء القطب الجنوبي المتخصصون في عشرة أو عشرين رحلة استكشافية. يسعى بعض السياح إلى محو أنشطة معينة من قوائم أمنياتهم، وأعتقد أن تغيير هذه العقلية كفيل بأن يهدئ من جنون السفر هذا".
Andrew Ling
غرفة نوم في أحد مخيمات وايت ديزيرت الصديقة للبيئة التي توفرها شركة وايت ديزرت تبدو أقرب إلى كبسولة فضائية هبطت من المريخ.
آفاق المستقبل
قبل الوباء، كانت السياحة في القارة القطبية الجنوبية مزدهرة، ومن المتوقع أن تنتعش في الموسم المقبل، خصوصًا مع تدشين سفن جديدة ستحل محل السفن القديمة التي كانت تمتلكها شركات توقفت عن العمل خلال العامين الماضيين. تسير شركة سوان هيلينيك في هذا الطريق، إذ إنها ستضيف سفينتين اثنتين إلى أسطولها، ليصبح العدد في أسطولها ثلاث سفن. كما كشفت شركة وايت ديزرت عن مخيم ثالث في القارة القطبية الجنوبية هذا الموسم.
يقول كولتهارد: "يجب عليك أن تتروّى في التخطيط لعطلتك". فالأمر لا يتعلق ببيانات الاعتماد الصديقة للبيئة حسب، ولكن يشمل أيضًا معرفة إذا ما كانت هذه السفن أعضاء في الرابطة الدولية لمنظمي الرحلات السياحية في أنتاركتيكا (IAATO)، والتي تضمن امتثال الشركاء السياحيين لمعاهدة أنتاركتيكا.
ويرى كولتهارد أن من المهم أيضًا تحديد الدولة التي تصدر تصريح تشغيل السفينة (من المعروف أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة تمعنان في التدقيق، وهذا أمر حسن) والتحقق مما إذا كان المرشدون ملّاحين معتمدين وأعضاء في جمعية مرشدي السياحة القطبية، أي أنهم مدربون على العمل في تلك البيئة.
تنظم بعض السفن برامج علمية للمواطنين، وهو ما يخوّل للركاب المساعدة في جمع البيانات القيمة. ويُعد تسليح الضيوف بالمعرفة حول البيئة القطبية والحياة البرية أمرا بالغ الأهمية.
في أثناء عبورنا الذي استمر يومين، استمعنا لمحاضرات متعددة ألقاها قادة رحلات استكشافية ومؤرخون وعلماء طيور وعلماء أحياء بحرية. لم تكن المحاضرات كلها إلزامية ولكنها أجريت داخل مجلس مراقبة تحيطه واجهة زجاجية وتتناثر فيه أرائك على الطراز الاسكندنافي، ولذلك لم تكن متابعتها بالأمر الشاق. كان المجلس يحتشد بالحضور عندما ينحسر الشعور بدوار البحر ويخرج الركاب من غرفهم التي يتحصنون بداخلها (وحيث بمقدورهم أيضًا متابعة المحاضرات عبر شاشات التلفاز).
White Desert
تتيح الواجهات الزجاجية للكبسولات المدفأة في المخيم إطلالات أخاذة على الامتدادات الجليدية.
في اليوم الأخير، زرنا نقطة هانا Hannah Point في جزيرة ليفينغستون البركانية التي تتميز بشاطئ أسود طويل تحيط به جبال شاهقة، وهو ما يذكر بمشاهد قد تراها في هاواي. الرمال هنا شديدة الحمضية ولهذا لا يلتصق بها الثلج دائمًا. هنا تساءلت عن مساحة القارة القطبية الجنوبية التي قد تشبه هذا الامتداد الأسود لو أزيل عنها الجليد الذي يغطيها. الحقيقة القاتمة بالطبع هي أن ارتفاع درجة حرارة الكوكب قد يجعلنا نعرف هذا في القريب العاجل.
صباح ذلك اليوم، كنت قد تلقيت إشعارًا كئيبا: خلصت الأمم المتحدة إلى أن تغير المناخ يضر بالكوكب بوتيرة أسرع مما يستطيع البشر التكيف معه.
كانت السماء رمادية والرياح تهب عبر الخليج، وأمام سفح الجبال، وقفت بطاريق جنتو في صف غير مستو، حانية أجسامها إلى الأمام، وظهورها إلى البحر. وإزاء هذا المنظر، أشارت إليها سارة سكريفر، قائدة حملتنا الاستكشافية، قائلة: "إنهم متجهمون". ظلت البطاريق واقفة في مهب الريح على حافة البحر لأنها لا تغطس في الماء لتتغذى إلا بعد أن ينبت لها ريش جديد، على الرغم من البرودة والجوع اللذين تحس بهما. لقد كانت هذه علامة أكيدة على أن فصل الشتاء على الأبواب. وهكذا حان وقت رحيلنا.
كانت رحلتنا إحدى آخر الرحلات البحرية لهذا الموسم، قبل انخفاض درجة الحرارة من -1 درجة مئوية إلى -17 درجة مئوية وأكثر، وتجمد البحر المحيط بالقارة، ما سيضاعف حجمها على الرغم من اقتراب هبوب موجة حر ستجعل موازين الحرارة ترتفع إلى حدود 29 درجة مئوية، وهو الأمر الذي يبعث على القلق.
قابلتنا بعض العواصف في طريقنا وكان الطقس متقلبًا: لم تعد القارة القطبية الجنوبية تريدنا على أراضيها بعد الآن. ولكن عندما غادرنا شواطئها في يوم مشمس، أبكر بساعات قليلة لتجنب عاصفة تقترب من ممر دريك، أدهشني كيف أن مكانًا شديد البرودة وغير مضياف كهذا يمكنه أن يبعث الدفء في القلب.
ليس بمقدرونا التأكد مما سيحدث هنا، ولكنني متيقنة من أمر واحد: لقد تغير سلوك الركاب على متن السفينة. لقد عاينت كيف اقترب سياح تغمرهم اللهفة والاندفاع من الحياة البرية في اليوم الأول، ثم كيف استكانوا بسلام على صخرة في اليوم الأخير مراقبين ما حولهم من بعيد.
تكاد تقول إنهم كانوا في حالة تأمل، وهذا ما تدفعك إليه دفعًا هذه البيئة القاهرة. يعلق كولتهارد على هذا بقوله: "إنها إحدى الوجهات التي تحثك على التفكّر. إنها تذكرنا بمدى هشاشة حياتنا".
ربما لن يمثل أحد من هؤلاء الزوار صوت القارة القطبية الجنوبية أو يمارس الضغط من أجل الحفاظ عليها. ولكن شيئًا ما بداخلهم قد اهتز. والآن بعد أن عاينوا هشاشة القارة وعلموا المخاطر التي تواجهها، فأنا متفائلة بأن مزيدًا منهم سيهتمون بما يحدث لها.