في مُجمّع المصانع المترامي الأطراف في إقليم لو ماركي، قلب إيطاليا النابض، وموطن علامة تودز Tod’s، يجلس دييغو ديلا فالي، رئيس تودز ومبتكر الحذاء المفضل عالميًا للقيادة، في مكتبه الرائع الذي تفوق مساحته مساحةَ ملعب لكرة المضرب، والذي يغمره الضوء الطبيعي ويزخر بالأعمال الفنية المعاصرة، ويستهل حديثه قائلاً: "ذهبنا في صِغري في جولة إلى روما، وأتذكر جيدًا أن رؤية الكولوسيوم أبهرتني. كان صرحًا عملاقًا. إنه من الأمور الحياتية التي تبدو لك ضخمة في الصِّغر، وتَظلّ على حالها عندما يتقدم بك العمر".
تُعد دار تودز من الأسماء الكبيرة أيضًا، وهي من أبرز علامات الأزياء في أوروبا، وتُنتج أحذية وحقائب وملابس إيطالية الصنع مخصصة للرجال والنساء. وقد سجلت مجموعة تودز، التي تضم علامة الأحذية والكماليات روجيه فيفييه وعلامة الأزياء هوغان وعلامة الملابس فاي، مبيعاتٍ تُقدّر بنحو 623 مليون دولار في النصف الأول من هذا العام، منها أرباحٌ تعود لدار تودز تتجاوز 311 مليون دولار، أي بزيادةٍ تفوق 21% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. تَعدّت إيرادات مجموعة تودز 1.1 مليار دولار في عام 2022، أي بزيادة تُقارب 10% مقارنة بإيرادات المجموعة قبل الوباء.
المصنع ضخمٌ أيضًا، وهو من تصميم زوجة ديلا فالي الثالثة والحالية، المهندسة المعمارية باربرا بيستيلي، وقد شُيّد باستخدام رخام الترافرْتين الإيطالي اللامع، على مساحةٍ تُغطّي نحو مليون قدم مربعة، منها نحو 16 فدانًا كلها حدائق.
إن هذا المصنع من الضخامة بِمكان، حتى إن دورينو، والد ديلا فالي، كان يستخدم دراجةً للتنقل في أرجائه (بعد وفاة دورينو في عام 2012، نُصِبت الدراجة في الردهة تكريمًا له، وأحيطت بالعديد من الأعمال الفنية المعاصرة). لمّا بدأت عملية البناء قبل نحو 25 عامًا، كان هذا الصّرح من أوائل المرافق المحلية التي وفّرت بيئةً راقية تُتيح للموظفين العمل والترفيه، إذ يَضم حضانةً نهارية، وروضة أطفال كبيرة، فضلاً عن صالة رياضية ومطعم وقاعة للمعارض والمحاضرات، وكلها مفتوحة مجانًا للموظفين.
تنتشر القطع الفنية في هذا المكان، وفي مقدمتها الدَّرَج الخاص الذي صمّمه رُونْ أَرادْ والذي أطلق عليه اسم "ويف" Wave بالإضافة إلى سيارة الفورمولا 1 من طراز Ferrari F33 التي قادها مايكل شوماخر في بطولة عام 1997، والتي كانت هديةً من صديقه لوكا كورديرو دي مونتيزيمولو عندما كان رئيسَ مجلس إدارة شركة فيراري.
مسؤولية اجتماعية
يقول ديلا فالي، البالغ من العمر 69 عامًا والذي يتحدث بهدوءٍ لغةً إنجليزية جيدة، وقاصرة على نحو ساحر: "نعمل في مكان لطيف يتيح لنا اختبار أسلوب عيش صحي بفضل المساحات الخضراء التي تُحيط به. إن المكان أشبه بحرم جامعي". وعن الحرفيين الذين يواصلون صناعة المنتجات يدويًا يقول: "داخل منشآت المصنع، يعمل الحرفيون بالأسلوب نفسه الذي كان معتمدًا قبل 100 عام". ويضيف: "هذا هو الفارق الكبير بيننا، بجانب ثلاث شركات أخرى أو أربع، وبين العديد من الشركات التي ينحصر عملها في التسويق".
Leonardo Rinaldesi © Tod's
جانبٌ من سيارة فيراري التي قادها مايكل شوماخر في بطولة الفورمولا 1 في عام 1997.
يُتابع ديلا فالي قائلاً: "تُولي الشركة اهتمامًا خاصًا لجودة الحياة، ولهذا نُعينُ موظفينا قدر الإمكان، كما ندعم المنطقة بأساليب مختلفة. أما دعمنا للبلاد، فإنه يتجلّى في أنشطةِ ترميم الكولوسيوم ومسرح لا سكالا، بجانب أنشطة أخرى كثيرة. إن تحقيق الربح من أولوياتنا بطبيعة الحال، وضُمورَ الأرباح يستوجب فَصْل الرئيس. ومع ذلك، تَظل مسؤوليتنا الاجتماعية حاضرةً بقوة. نعم، أفتخر عندما أفعل شيئًا يَنفع الآخرين. إني أَرغب في تحقيق ما يعود بالنفع على الجميع، وليس ما يعود بالنفع عليّ وعلى عائلتي فحسب".
Leonardo Rinaldesi © Tod's
الردهة الفسيحة في مصنع تودز الواقع في إقليم لو ماركي الإيطالي.
في الواقع، تَعهّد دييغو ديلا فالي (أَو "دي دي في" DDV كما يُطلق عليه تَحبّبًا) بمنح قرابة 28 مليون دولار لترميم الكولوسيوم في عام 2011، وذلك على أربع مراحل. وقد اكتملت المرحلتان الأولى والثانية، اللتان انصبّ التركيز فيهما على تنظيف كل شبر من الصّرح القائم منذ 2,000 عام باستخدام البخار المُنقّى عالي الضغط وترميم سلسلة الأنفاق والغرف القائمة تحت الميدان، والتي كان يجري فيها إعداد المصارعين والحيوانات.
Leonardo Rinaldesi © Tod's
دَرجٌ خاص من تصميم رُونْ أَرادْ يحمل اسم Wave.
وتوشك المرحلة الثالثة، التي تُعنى بنقل مركز الخدمة خارج مبنى الكولوسيوم الرئيس، على البدء، ثم تتبعها المرحلة الرابعة التي تستهدف الإضاءة. إلى ذلك، كانت تودز عضوًا دائمًا في مؤسسة تِياتْرو ألّا سْكالا Teatro alla Scala منذ عام 2011 وقد ساعدت في تغطية نفقات دار الأوبرا الشهيرة في ميلانو على مدار عام كامل.
Leonardo Rinaldesi © Tod's
المساحات الخارجية المحيطة بالمقر الرئيس لشركة تودز.
شيّد دييغو ديلا فالي أيضًا مدارس عديدة، كما مَوّل مشاريع للمجتمع في كاسيت ديتي Casette d’Ete بالقرب من فيرمو، المنطقة التي يقع فيها المصنع، وحيث نَشأ، واستقرّ، مع شقيقه الأصغر أندريا (نائب رئيس مجموعة تودز الذي يُكمل عامه الثامن والخمسين في هذا الشهر). علاوة على ذلك، يمتلك ديلا فالي عقارات في كابري وميلانو ونيويورك وميامي وباريس، ويختًا بطول 52 قدمًا كان ضمن ملكية الرئيس جون كينيدي، وطائرة مروحية، ومجموعة من سيارات فيراري، وتُقدّر ثروته الشخصية بنحو 1.6 مليار دولار.
يستأنف ديلا فالي كلامه قائلاً: "من المهم جدًا أن نُبيّن للشباب أن الثراء الفاحش والنجاح التجاري لا يعنيان شيئًا بدون العطاء النافع للآخرين". ولهذا السبب يُوظف علاقاته لتشجيع أصحاب النفوذ على البذل والعطاء. وفي هذا يقول، بنبرةٍ مشحونة بحسّ إنساني عالٍ: "لا تهم المراتب الأولى وغيرها من التصنيفات، فالأفعال أصدق إنباءً من المراتب".
Leonardo Rinaldesi © Tod's
أثر قدم عملاقة من تصوير جيوفاني غاستيل.
الفخامة المجدية
يُرينا توني ريباني، كبير خبراء الجلود في تودز، حيلةً يُدرك الناظر أنه استعرضها مرات عدة من قبل. يأخذُ قارورة ماء ويصبّ بضع قطرات على حذاءِ غومينو Gommino المصنوع من الجلد المقلوب، والذي اقتُبس اسمه من الحصوات المطاطية المميزة على نعله والتي يبلغ عددها 133 حصوة. يُعد هذا الحذاء توقيع الشركة الفارق، وتصميمه أصدق تعبير عن علامة تودز. يَتقاطر الماء على الجزء العلوي من الحذاء ويَتمايل من دون أن يخترق الجلد.
بعد ذلك، يَضع ريباني إصبعه في بقعة الماء، ثم يفرك بعضًا منه على الجلد قبل أن يُريقَ الباقي على الأرض. على الفور، تظهر بقعةٌ داكنة على الجلد المقلوب. باستعراض هذه الحيلة، يهدف ريباني إلى إظهار جودة الجلد المقاوم للماء الذي تستخدمه تودز في أحذيتها: تختفي البقعة بعد دقائق ويعود الحذاء إلى حالته الأولى. لا سِحرَ هنا، بل هوسٌ بالتميز والفائدة. ففي عالم تودز، ينبغي أن يكون للفخامة غايةٌ محددة.
عمِل ريباني في الشركة طيلة أربعة وأربعين عامًا، ورغم أنه بلغ السادسة والسبعين من العمر، إلا أنه يَستصعب التقاعد. ولأنه اعتاد مُرافقة ديلا فالي إلى المصنع في أيام السبت لتفقد الجلود في هدوء، فقد استُحِثّ على أخذ إجازة بعد الظهيرة ليومين في الأسبوع. لكنه يَجد مَشقّة في الالتزام بها لأنه مولع بعمله، ولأن زوجته تُحب مُكوثه في العمل. لذلك فهو لا يَتعجّل التقاعد، خصوصًا أنه يرى أن ثمة الكثير ليتعلمه، حتى بعد أربعة عقود ونصف.
يعرف الموظفون كافة في متاجر تودز البالغ عددها 422 متجرًا من هو توني، لأن قسمًا من تدريبهم يقتضي زيارة لو ماركي ومشاهدته في أثناء العمل. وخلال زياراتهم هذه، يَختبرون أسلوب الحياة الإيطالي: الطعام، والطقس، والذائقة (ما يُعرف داخل مقر تودز باسم "التأهيل الإيطالي").
أما الحكمة من وراء هذا التأهيل، فيمكن اختصارها بالآتي: لا مجال لبيع منتجٍ جلدي من دون فهم غايته ومزايا المادة المكوّنة له. وبالمثل، لا يُمكن بيع منتج جلدي إيطالي من دون الإحاطة بأسلوب الحياة الإيطالي. فشراء حقيبة جلدية بتوقيع تودز أو حذاء من طراز غومينو يعني، وإنْ لاشعوريًا، امتلاك قطعة من الحياة الإيطالية. إنه أمر يثمّنه ديلا فالي كثيرًا، حتى أنه أَقام بُنيان حياته على أساسه.
Leonardo Rinaldesi © Tod's
خبير الجلود توني ريباني في أثناء تفقده قطع الجلد.
غومينو، الحذاء الذي لا يشيخ
كان فيليبو، جدّ ديلا فالي، يصنع الأحذية يدويًا في منزله في أوائل عشرينيات القرن الماضي. ومن ثم استلم منه دورينو، والد ديلا فالي، الشعلة، فأنشأ مصنعًا صغيرًا، مِنه زَوّد متاجر مثل ساكس فيفث أفينيو وبيرغدورف غودمان بمتطلباتها من الأحذية. انضم دييغو إلى الشركة العائلية في عام 1975، وبعدها بسنوات، خطرت له فكرة حذاءِ بلا كعب للقيادة، يُزاوج بين الطابع المريح والبسيط للملابس الأمريكية التي شاهدها في رحلاته إلى الولايات المتحدة والحيوية الإيطالية.
على مدار العقود الأربعة الماضية، انتعل العديد من نجوم هوليوود وأسياد الثقافة الشعبية (إلى جانب أفرادٍ من العائلات الملكية) أحذية غومينو، مِن جْياني أنييلي (بادر ديلا فالي إلى إهدائه زوجًا من هذه الأحذية في خطوة تسويقية بارعة أدت إلى ارتفاع حاد في المبيعات) إلى دينزل واشنطن وألكسندر سكارسغارد ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك. تظل أحذية غومينو عِماد مجموعات الأحذية الرجالية والنسائية على حد سواء، ولذلك الْتَمستُ من ديلا فالي تفسيرًا لجاذبيتها الراسخة. وقد أجابني بقوله: "تَنسج العديد من العلامات القصص حول منتجات محددة، ولكن المنتج الأيقوني هو القصة نفسها".
Leonardo Rinaldesi © Tod's
عملية طلاء طرف الرباط الجلدي.
يستفيض ديلا فالي في الإيضاح قائلاً: "إن حذاء غومينو الذي ابتكرته منتج أيقوني. وكذلك الحال مع حقيبة بيركن من هيرميس، وساعة Submariner من رولكس، ونظارات Aviator Ray-Ban. إنها ابتكارات أيقونية، حتى وإنْ اختلف سعرها: يبلغ سعر نظارات أفياتور 200 يورو، فيما يبلغ سعر ساعة رولكس 10,000 يورو.
على أن الطابع الأيقوني لهذه المنتجات يُرد إلى استحسانها على نطاق واسع، وإلى عراقة الشركات المُصنعة لها، وأخيرًا إلى القصص الكثيرة المرتبطة بها. فكَمْ من شخصٍ ارتدى نظارات راي بان أفياتور، وكَمْ من فيلم زيّن أبطاله إطلالاتهم بساعات رولكس؟ إن المنتجات الأيقونية محصلة الحلم".
يُشاركنا ديلا فالي أيضًا فكرةً نبيهة عن سبب ازدهار علامة تودز، وليس استمرارها فحسب، في سوقٍ تبرز فيه بعض العلامات زمنًا ثم يطويها النسيان في غضون سنوات. وفي هذا يقول ضاحكًا: "يُلحّ الناس حاليًا على الإصدارات المحدودة والمنتجات المُصممة بالتعاون مع علامات أخرى. بيد أن هذا من شأنه إغراق السوق بمنتجات متشابهة، وهو أمرٌ يُمكن معاينته في العديد من المتاجر التي لم تَعُدْ تَعرض جديدًا يُذكر".
يُشير ديلا فالي أيضًا إلى أن نقص المنتجات في المتاجر يُثير حنق الزبائن، خصوصًا الأثرياء منهم. وفي هذا يقول: "أتوقع أن يكون المستقبل من نصيب المنتجات الأيقونية، التي قد تكون أحيانًا منتجاتٍ بالغة البساطة. والسببُ هو أن الناس باتوا يُحبون امتلاك منتجٍ واحد يدوم طويلاً، شرط أن يكون عمليًا وذا جودة عالية. ومن ثم، فإن الابتكار الأيقوني هو المنتجُ الذي لا يَبْرحُ واجهات المتاجر".
على هامش سيرة الشركة، شاع أن دييغو ديلا فالي اختار اسم تودز في عام 1984 بعد مُطالعة دليل الهاتف بحثًا عن اسم مناسب. ولكنه يُورِد أن اختياره وقع على الاسم لقِصره وبَساطته ووُضوحه وسهولة نُطقه في مختلف أنحاء العالم. كان الاسم الأصلي للشركة هو دجاي بي تودز J.P. Tod’s، لكن جَرى إسقاط الأحرف الأولى في عام 1997. والغريب في الأمر هو أن ذلك الاسم سيعود قريبًا، حسبما أعلن ديلا فالي، إذ في غضون بضعة أشهر، سيجري إطلاق "قسمٍ صغير باسْم دجاي بي تودز، يُعنى بتصميم أفخم منتجات العلامة". وستكون النتيجة استخدام أفخم مواد تودز وأعلاها تميزًا في إنتاج أحذية غومينو. فهل يكون الأمر أشبه بابتكار أيقونةٍ من داخل أيقونة؟
Leonardo Rinaldesi © Tod's
ريباني رفقة فرانشيسكو الذي انضم إلى فريقه بعد إكمال برنامج التدريب الذي تتيحه تودز.
دقة في التصنيع
مِن الجلد تنطلق عملية صنع أحذية غومينو، ومن ثم مع توني. ثمة قسم كامل خاص بالنماذج الأولية، حيث تُطرح الأفكار الجديدة وتُعاد صياغة التصاميم. ولا يرى أيّ ابتكار النورَ ما لم يُصادِق عليه هذا القسم، الذي يُحدد صلاحية المنتجات، من بين أمور أخرى.
في المكان آلاتٌ تَضع الأحذية قيد الاختبار، إذ تُحاكي مسيرة آلاف الخطوات. يشتمل المصنع أيضًا على آلاتٍ تَقيس نُقط الضغط في مواد مختلفة، فضلاً عن آلةٍ تُحدد مقدار تضرر الملابس عند احتكاكها بالأحذية. وإذا ظَلّت الشكوك تَحوم حول شَرْط الراحة، فإنه يجري اختبار النموذج الأولي على الطريقة التقليدية، بالتجول في المصنع بحذاء جديد في قَدم، وحذاء قديم في الأخرى لأغراض المقارنة.
Leonardo Rinaldesi © Tod's
يشحذ صانع قوالب الأحذية قالبًا خشبيًا لتحقيق المقاس الملائم.
أما إذا كان النموذج في حاجة إلى تعديلات، فإنه يُرسَل إلى صانع قوالب الأحذية، الذي يشحذ القالب الخشبي باستخدام مِكْشط ومِبرد في غرفة مُضاءةٍ تزهو بصور دراجته النارية التي عُلّقت على لوحة خلفه. بالإضافة إلى بَرْد ملليمتراتٍ من القالب، يستطيع أيضًا تكبير حجمه بإضافة مادة صمغية إلى مواضع محددة، من أجل تمديد الجلد ومنع احتكاك الحذاء بإصبع القدم على سبيل المثال.
يَخضع النموذج الأولي للتعديل حتى يرضى قسم قوالب الأحذية، وعندها فحسب يُستنسخ القالب بلاستيكيًا ثم يَدخل مرحلة الإنتاج. في هذه المرحلة، يَستخدم الحرفيون تقنيات عتيقة لم تُداخلها تغييرات جَمّة بالرغم من تعاقب السنين. لقد أصبح بالإمكان قَطْع الجلود باليد أو الآلة أو الليزر، ومع ذلك يَتكفل بأغلب مراحل بناء الحذاء شخصٌ يرتدي مِئزرًا ويُلوّح بأداة في يده.
Leonardo Rinaldesi © Tod's
مئات القوالب الخشبية المصنوعة يدويًا.
حارس الحرفة الإيطالية
أقامت تودز مستودعًا لتخزين الجلود يُغطّي مساحة 37 ألف قدم مربعة، ويُمكن التحكم في معدلات رطوبته بما يَضمن حِفْظ الجلود لخمسين عامًا من دون أن يطولها التلف. ولكن أي أنامل ستُطوّع هذه المواد الخام في النصف الثاني من هذا القرن، أو حتى في العقد المقبل؟ في هذه الأيام، يُمكن تصنيع الأحذية بوساطة الروبوتات، ولكن "جودتها ناقصة"، كما يقول دييغو ديلا فالي. لذلك يَتوقف بقاء الشركة على توافر الحرفيين، ولكن الشباب يُغادرون المنطقة بحثًا عن وظائف يرونها مُربحةً ومرموقة أكثر. يقول ديلا فالي: "حاليًا في إيطاليا، يقول كبار السن إن الشباب يُغادرون القرى، والقرى تُهْجَر.
Leonardo Rinaldesi © Tod's
مستودع الجلود الفسيح، حيث يمكن حِفْظ الجلود لخمسين عامًا من دون أن يطولها التلف.
إن المشاكل الاجتماعية كثيرة ولا أحد يُعين كبار السن". لهذا، أطلق ديلا فالي قبل بضع سنوات برنامج "بوتيغا دي مِسْتيِيري" Bottega dei Mestieri، الذي يَقضي بتعيين متدربين شباب للعمل بجانب خبراء معروفين لمدة لا تقل عن 6 أشهر في إطار تدريبٍ مهني مدفوعٍ يَمسّ مختلف نواحي هذه الصناعة.
ويقول ديلا فالي: "إنه مشروع يسعى إلى دعم العاملين الشباب قليلي الخبرة، فضلاً عن كبار السن الموشِكين على التقاعد". ويُضيف: "في هذه الحالة، يَمدّ الشبابُ كبارَ السن بالطاقة، في حين يمدّ كبارُ السن الشبابَ بالخبرة. إنه مزيج حميدٌ، إذ يُسهم في الوصل بين جيلين مختلفين. بل إن الأمر يصل كثيرًا إلى إعدادهم الغداء معًا". بعد انقضاء فترة الاختبار، يُقرر نحو 80% من المتدربين الاستمرار في العمل مع الشركة، وقد جرى تعيين قرابة 300 موظف بهذه الطريقة.
إن ديلا فالي مقتنعٌ بأن الشباب الإيطالي قادر على تَقبّل فكرة العمل اليدوي - أي صنع الأشياء - بوصفها مهنة نبيلة ومربحة. إن هذا العمل جزءٌ من وَسْمِ "صُنع في إيطاليا" المُهم جدًا للصناعة الفاخرة في البلاد، ولِديلا فالي شخصيًا، أي الإيمان بأن قرونًا من الإرث الفني والحرفي الممتد من العمارة إلى الصناعة، يَرفد التميّز الإيطالي ويجعل منه سمة راسخة وأمرًا يَكاد يكون مُقدّرًا على حد سواء. وهذه السمة ليست لعبة تسويقية، بل عقيدة راسخة.
Leonardo Rinaldesi © Tod's
مراحل صناعة حذاء غومينو الشهير.
لكن، هل مِن السهل إقناع الشباب في العشرينيات من العمر بأن يَصْرفوا النظر عن شركات وول ستريت وسيليكون فالي ويتوجّهوا بدلاً من ذلك إلى العمل في المصانع؟ فرانشيسكو واحدٌ من أولئك الشباب، وهو يبلغ من العمر 27 عامًا ويَعمل في تودز منذ ست سنوات. ابتدأ مسيرته بقطع الجلد، وقد أثارت دقته إعجاب توني، الذي أراد ضَمّه إلى فريقه. ولكن انعدام المناصب المفتوحة حال دون ذلك، غير أن ديلا فالي وظّفه على أي حال.
فلماذا أراد فرانشيسكو ممارسة هذا العمل؟ يُجيب قائلاً: "أحب الشعور الذي ينتابني عند تحسّن مهاراتي، والعمل مع الخبراء. كما أنني كنت دومًا مفتونًا بعالم الأزياء والفخامة، ولهذا أردت مُعاينة أصول صنع هذه المنتجات عن كثب". نشأ فرانشيسكو في المنطقة ودرس الهندسة الميكانيكية في الكلية، ومع ذلك اختار العمل اليدوي. وفي هذا يقول: "إن شركة تودز جديرة بالثقة، والجميع يَعلم ذلك". ويُتابع: "إنني أهوى التقنيات الحرفية التقليدية، مثل الخياطة اليدوية، لذلك أتطلع بشوق إلى التعلم من أشخاصٍ مارسوا هذه الحِرفة ردحًا طويلاً".
ينتاب الفضول أصدقاء فرانشيسكو، فهم يعرفون العلامة وأحذيتها، ومع ذلك، دائمًا ما يَطرحون الأسئلة عن أسلوب صنعها. يزداد اهتمام الجيل زِدْ وجيل الألفية بالحرف اليدوية، وفي هذا يقول ديلا فالي، فيما هو جالسٌ في مكتبه: "إن شعار 'صُنع في إيطاليا' واقعٌ وحقيقة، وهو في الوقت نفسه شعارٌ في غاية البساطة.
إنه يَرمز إلى الحياة الرفيعة". ويُضيف: "في إيطاليا، يَسْري شعور قوي إزاء مِثالِ الحِرفي، لأن الناس تَشرّبوا ثقافةً تُعلي من شأن هذا النوع من الأعمال. وقد لا يكون هذا طبيعيًا في العديد من البلدان، ذلك أن حياة الحِرفي يَطبعها قدر كبير من الاستقلال والجاذبية". ختامًا، يقول ديلا فالي إن الموارد البشرية التي تخسرها سيليكون فالي مَكسبٌ لإيطاليا ومكسب لشركته.