تختلف ردود أفعال الرجال إزاء أزمة منتصف العمر، فمنهم من يواجهها بتغيير خزانة ملابسه ومنهم من يقرر اقتناء سيارة خارقة. أما داني فيريرا، فكان رده تحقيق حلم راوده منذ ثلاثة عقود في عام 2013. كان عمره آنذاك 49 عامًا وكان الرئيس التنفيذي لشركة Urban Brew Studios التي يقع مقرها في جنوب إفريقيا.
نشأ فيريرا في جنوب إفريقيا التي تتسم بمناخ شبه استوائي، وتغيرت حياته في عام 1983 عندما شارك في رحلة استكشافية استمرت 14 شهرًا إلى القارة القطبية الجنوبية.
كان وقتها يبلغ من العمر 19 عامًا وشغوفًا بالتصوير. وما إن وقع ناظراه على المساحات الثلجية غير المضيافة، من المضائق البيضاء والأنهار الجليدية المذهلة إلى الجبال المكللة بالثلوج، حتى افتُتن بها. وفي هذا يقول: "كانت أبرز محطة في تلك الرحلة الجولات الميدانية الليلية إلى الأغوار، بعيدًا عن السفينة، لإنشاء مستودعات وقود للعلماء".
لم يسبق أن اجتذب شيء فيريرا بقدر القارة المتجمدة، وهو يستطرد قائلاً: "تُفتن بروعتها حتى عندما تنكّل بك. فالقارة القطبية الجنوبية معلمة صعبة، لكنك تريد دائمًا حضور صفوفها".
استغرقت العودة سنوات. ففي عام 1987، أطلق فيريرا شركة إنتاج تلفزيوني تحت إدارة ثلاثة أشخاص وذلك بغرض تغطية تكاليف الدراسية الجامعية، ثم تفرغ لتنميتها حتى أصبحت قوة إعلامية تضم أكثر من 400 موظف.
وما إن بلغ سن التاسعة والأربعين، حتى أدرك أن ضريبة العمل لثمانين ساعة كل أسبوع، وسط مشهد إعلامي سريع التغير، فادحة. وفي هذا يقول: "لقد أحببت وظيفتي، ولكن الاستمرار بالوتيرة نفسها لم يعد ممكنًا. كنت أعاني الإنهاك الوظيفي".
قرر عندئذٍ سحب نصيبه من الشركة، ولكن شعور الضياع ظل يلازمه. يقول: "كنت في مرحلة من حياتي لم يعد فيها نجاحي يهمني بقدر ما يهمني المغزى مما أفعله".
Derek White
داني فيريرا على صاري المقدمة المائل لقارب Bør وهو يصور فيلمه الوثائقي Ice Dogs.
وجاء العلاج في صورة حلم منسي نفض فيريرا الغبار عنه وقرر تحويله إلى واقع بتمويل بعثة تشبه الرحلات الاستكشافية القديمة. في مارس من عام 2013، أبحر فيريرا وهافارد سفيدال، العسكري النرويجي الذي لقيه قبل عامين خلال تصوير فيلم وثائقي في القطب الجنوبي، من النرويج إلى سفالبارد عبر بحر بارنتس على متن يخت فولاذي بطول 60 قدمًا يحمل اسم Bør. وكان على القارب أيضًا ستة كلاب لجر الزلاجات من فصيلة كلاب غرينلاند، والقبطان، وطاقم من ثلاثة أفراد، فضلًا عن مجموعة من الأصدقاء الباحثين أيضًا عن مغامرة.
انطلقت البعثة في شهر مارس، والفصل شتاء، فواجه القارب عواصف هوجاء وأمواجًا بلغ ارتفاعها 30 قدمًا تقريبًا. تجمد الماء المتجمع على الحبال فورًا وكانت الكلاب على السطح خائفة، بالرغم من أن الأقفاص كانت تحميها. وكان سفيدال يجابه الأمواج ويقاوم حركة القارب العنيفة، ويخرج مرارًا للتأكد من سلامة الكلاب. وعندما أبحر القارب إلى لونغياربيين Longyearbyen، كان يبدو مثل سفينة أشباح مغطاة بالجليد عمرها 100 عام.
Oliver Pilcher
ثيران المسك في غرينلاند النائية.
ينزعج فيريرا من التلميح إلى أن الستة أيام التي استغرقتها الرحلة كانت فترة عصيبة. وفي هذا يقول: "بدأنا أبحاثنا قبل 18 شهرًا من الموعد المقرر للتأكد من أن السفينة والطاقم مناسبان. لقد كنا على أتم الاستعداد". بل إنه يصر على أن الوقت كان مثاليًا للقيام بهذه الرحلة في "الموسم الأزرق" الذي يعد حلم كل مصور على ما يقول إذ إن "ضوءًا أزرق يغمر المناظر الطبيعية البيضاء لبضع ساعات عند الفجر والشفق"، ولا يكون ثمة قوارب أخرى في الجوار.
أمضى الفريق شهرًا في استكشاف الأرخبيل، وأنزلوا سفيدال وكلابه لاختبار تقنيات جديدة للتزلج عبر جزر بكر غير مأهولة، في حين كان فيريرا يصوّر فيلمه الوثائقي Ice Dogs (كلاب الجليد). يقول فيريرا: "من الناحية الوراثية، تتميز كلاب غرينلاند بقدرة تحمل عالية. ولذلك أحطناها بالرعاية أكثر مما اهتممنا بأنفسنا. فهذه الرحلة الاستكشافية ما كانت لتستمر لو لم تكن الكلاب مرتاحة، وبالتأكيد ما كان الفيلم الوثائقي ليكتمل".
KV Harstad
سفينة Bør وسط بحار فصل الشتاء الهائجة.
أتاح السفر باليخت للمجموعة التجوال بأريحية والرسو في أي مكان، حتى على الجليد البحري المنجرف دون الخوف من الدببة القطبية. ويقول فيريرا: "لقد سمعت من يصف الإبحار باليخوت بوصفه أغلى أشكال السفر بالدرجة الثالثة، ولكنه كان خيارًا مثاليًا". ويتابع قائلاً: "استمتعنا للغاية بمشاهدة العواصف الثلجية من مقصورة القيادة الدافئة فيما رائحة القهوة الطازجة تغمر المكان". وكانت القاعدة الأساسية التي التزمت بها المجموعة على متن Bør: "لا تتكلم إلا إذا كان كلامك خيرًا من صمتك".
كانت رحلة فيريرا التالية الممولة ذاتيًا إلى شرق غرينلاند، موقع التصوير الثاني لفيلم Ice Dogs. وقد توجّه إلى تلك الأقاصي برفقة ابنته آنا وسفيدال وأشخاص آخرين. على مر 28 يومًا، ركبوا زلاجات تجرها الكلاب مع صيادين من الإسكيمو، قاصدين جبال جيمسون لاند ثم الساحل، في رحلة الصيد الربيعية لتزويد القرية بالإمدادات الغذائية.
Danie Ferreira
كلاب غرينلاند التي تجر الزلاجات وهي تستريح في رحلة الصيد الربيعية.
ستُنشر هذا الشهر صور من تلك الرحلة الاستكشافية التي جرت في عام 2016 وصور من خمس رحلات أخرى قام بها فيريرا. ستزيّن الصور مجموعة من مجلدين بعنوان Out in the Cold (في البرد) يصدران عن دار هرتوود Hurtwood للنشر التي يقع مقرها في لندن.
تعد هذه المجموعة الفاخرة التي يبلغ سعرها نحو 2,900 دولار مرثية جميلة لا تنسى للمناطق القطبية. ويقول فيريرا: "لاحقت الجليد منذ عام 1983 وأنا أعدّه شكلًا فنيًا مستقلاً. لقد كنت ألتقط بعدستي البنى والتراكيب والألوان والأمزجة على ما تظهر من خلال تفاعل الضوء والطقس. كل جبل جليدي عابر قطعة فنية قائمة بذاتها، وشاهد على تحول لا ينتهي".
في النهاية، أدرك فيريرا تحولاً مماثلاً في ذاته. وفي هذا يقول: "أدركت أن الحياة تُحتسب بالعمر المديد وعمق التجارب معًا. فلا أحد يعرف مسارها، ولكن عمق التجربة أمر يمكننا التحكم به". والحكمة الأخرى المستمدة من الفصل الثاني من حياته: "يظل جزاء الحلم حلمًا مثله، حتى تتخذ قرارًا واعيًا بتحويله إلى واقع".