في مزاد استثنائي أقامته دار سوذبيز العالمية، بيعت لوحة "الرجل الجالس" Homme assis للفنان الإسباني بابلو بيكاسو مقابل 15 مليون دولار أمريكي، لتُضاف إلى رصيد أعماله المتأخرة التي تجسّد ذروة عطائه الفني في سنواته الأخيرة. 

وقد أنجز بيكاسو هذه اللوحة عام 1969، في فترة اتسمت بتأملات عميقة في الإرث الفني والتجريب الحر، ما جعلها واحدة من أبرز الشهادات البصرية على عبقريته المستمرة حتى الرمق الأخير.

"الرجل الجالس" .. لوحة من وحي الفرسان الثلاثة

استمدّ بيكاسو إلهامه لرسم اللوحة من رواية "الفرسان الثلاثة" للكاتب الفرنسي ألكسندر دوما، التي أعاد الفنان قراءتها خلال فترة نقاهته الطويلة بعد جراحة في المعدة. 

وقد وجد في شخصياتها المندفعة والبطولية انعكاسًا لروحه المتوهجة وسعيه المتجدّد نحو الإبداع، فحوّلها إلى رموز فنية جسّد من خلالها صراعه مع الزمن وتوقه لاستعادة جوهره الفني في سنواته الأخيرة.

في لوحة "الرجل الجالس"، يتجلّى أحد هؤلاء الفرسان بشارب ملتف وقبعة مترفة، وجسد يجلس في وقار على مساحة قماش شاهقة. صاغ بيكاسو المشهد بلمسة لونية جريئة، إذ تتناغم تدرجات الأصفر والأخضر والأزرق في الخلفية مع وجه أبيض وأسود مشغول بتفاصيل دقيقة. 

ويخلق هذا التناقض الحاد بين الألوان الحيوية والملامح الأحادية توازنًا بصريًا لافتًا، يُبرز الطابع التجريدي الذي ميّز أعماله المتأخرة، ويمنح اللوحة طاقة تعبيرية لا تخبو. 

لوحة "الرجل الجالس" لبيكاسو.. تحفة من زمن الفرسان تُسجّل رقمًا قياسيًا في مزاد سوذبيز

Sotheby’s

رمزية الفارس وصراع الزمن في مرحلة بيكاسو المتأخرة

على أن هذه اللوحة الفنية لم تكن مجرّد تصوير لشخصية خيالية، بل نافذة تعكس أعماق بيكاسو نفسه. فمنذ بداياته، اعتاد أن يُسقط ملامحه وهواجسه على شخصيات رمزية من المهرجين إلى المصارعين إلى أن استقر في سنواته الأخيرة على صورة الفارس بوصفها أقرب تمثيل نفسي له: شخصية مهيبة، منعزلة، قلقة، لكنها مشبعة بطاقة خلاقة لا تنضب.

 وتتجلى هذه الرمزية بوضوح في لوحة "الرجل الجالس".

إذ صوّر بيكاسو الفارس الجالس بهيئة فنية مفعمة بالقوة والتأمل، ليجعل منه امتدادًا بصريًا لصورته الداخلية.

توقيع بلون أرجواني.. ونداء عاطفي لجاكلين روك

وفي لمسة رمزية عاطفية، وقّع بيكاسو اسمه على اللوحة بلون أرجواني لافت، مستلهمًا لون طلاء أظافر رفيقته جاكلين روك في سنواته الأخيرة، كما فعل سابقًا في لوحته الشهيرة "امرأة مع ساعة" Femme à la Montre التي بيعت أخيرًا بأكثر من 120 مليون دولار.

عُرضت لوحة "الرجل الجالس" لأول مرة في عام 1970..

ضمن المعرض التاريخي الذي نظّمه بيكاسو بنفسه في قصر البابوات بمدينة أفينيون الفرنسية، ليكون تتويجًا بصريًا لعامه ما قبل الأخير، يُقدّم من خلاله خلاصة فنية لمسيرته المتأخرة التي ظلّت تنبض بالحيوية.

آنذاك، جاورت اللوحة عملًا آخر بعنوان "رجل وامرأة" Homme et Femme، أنجزه بعد أسبوع واحد فقط، ويُعرض اليوم ضمن مجموعة متحف مقاطعة لوس أنجلوس للفنون LACMA، شاهدًا على المرحلة الختامية من مسيرة لا تزال مشتعلة بالأثر والتأثير.