على مسافة دقائق من قلب ميامي النابض، ينتصب قصر فيزكايا Vizcaya مثل أيقونة تحتفي بالفخامة الكلاسيكية، بعيدًا عن صخب ناطحات السحاب وعناوين الثراء المعاصر.
هذه الجوهرة المعمارية، التي شُيّدت بين عامي 1914 و1922 بوصفها مقرًا شتويًا لجيمس ديرينغ، وريث شركة هارفستر العالمية المتخصصة في الآلات الزراعية، تُعد من أغلى العقارات في المدينة، إذ تُقدّر قيمتها اليوم بأكثر من مليار دولار، بحسب تقديرات جامعة فلوريدا الدولية.
ورغم أن البناء اكتمل بعد انتهاء "عصر الذهب" في الولايات المتحدة، الذي امتد من سبعينيات القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين، إلا أن قصر فيزكايا يجسّد روح تلك الحقبة..
بكل ما فيها من مظاهر الثراء المفرط والتقدّم التقني، على ما تشهد تقنيات متطورة وأعمال فنية جُمعت من أنحاء أوروبا.
وقد أبدع المصمم الداخلي بول شالفين في إضفاء لمسة كلاسيكية مستوحاة من الفيلات الإيطالية والفرنسية، ممزوجة بإيحاءات استوائية تتناغم مع مناخ جنوب فلوريدا.
قصر فيزكايا
واجهة بحرية، وحدائق مترفة، وألحان موسيقية
تماشيًا مع رؤيته لحياة مترفة، اختار جيمس ديرينغ أن يفتتح قصره من جهة البحر، حيث شكّلت غرفة المعيشة الخارجية East Loggia الواجهة الرئيسة لاستقبال الضيوف الوافدين بحرًا.
هناك، تتهادى القوارب نحو رواق فسيح تتقدّمه أعمدة رخامية وسقف مذهب، ينفتح مباشرة على الخليج، فيما تقف منصّة حجرية مشذّبة تُشبه بارجة راسية بثبات، تؤدي وظيفة جمالية وعملية معًا، إذ صُمّمت لتعمل بوصفه كاسر أمواج يقي القصر من تقلبات المد.
وعلى اليابسة، تكتمل الصورة ببساتين مترفة مستلهمة من حدائق الفيلات الإيطالية، تتشابك فيها المسارات مع المتاهات والمنصات المُدرجة التي استُخدمت سابقًا لعروض الأداء. في قلب هذا العالم الأخضر، يبرز "كازينو الحديقة"، المبنى المصغّر الذي أُنشئ خصوصًا ليستمتع ديرينغ وضيوفه بالنسيم من دون تعرّض مباشر للشمس.
هذا المبنى، الذي يزيّنه سقف مرسوم بصور سماوية، كان يومًا يشرف على حدائق مائية أُعدّت لإطلاق قوارب الجندول، قبل أن يُستغنى عنها وتؤول ملكيتها إلى الأبرشية الكاثوليكية في أربعينيات القرن الماضي.
يمتد القصر الفاخر على مساحة داخلية تقارب 45,000 قدم مربعة، تتوزع فيها الغرف والصالونات والمكتبات التي تزهو بتفاصيل معمارية وزخرفية تعكس ذروة الذوق الأوروبي في مطلع القرن العشرين.
Kristine Villarroel/Business Insider
أما الأراضي المحيطة، فتُعرف اليوم باسم "قرية فيزكايا" Vizcaya Village، وتمتد على مساحة 12 فدانًا كانت تضم مساكن للعمال ومزارع إنتاجية، خُصصت لتأمين احتياجات القصر من الخضراوات والألبان والدواجن، ما جعل فيزكايا آنذاك أحد أوائل النماذج الحية لمفهوم "من المزرعة إلى المائدة" في الولايات المتحدة.
داخل القصر، توجد تسع غرف أنيقة خُصصت لاستضافة الضيوف، وحمل كل منها اسمًا وتفاصيل زخرفية فريدة، إلى جانب أربع عشرة غرفة للموظفين حافظت على طابعها العملي.
أما مكتبة جيمس ديرينغ، فتقع بجوار مدخل القصر، وقد خُصصت لاستقبال الضيوف الرسميين والاجتماعات الخاصة، وازدانت جدرانها برفوف الكتب الخشبية فيما احتضنت مكاتب مزدوجة له ولسكرتيره.
ولم تغب الموسيقى عن فلسفة الحياة داخل فيزكايا، إذ تحتضن إحدى الصالات الرئيسة آلة أورغن فيلهارموني فريدة، بُنيت لتملأ القصر بالألحان عبر نظام صوتي متكامل واحتجبت خلف لوحة زيتية مقسومة إلى نصفين تُصوّر مشاهد دينية كلاسيكية، في انعكاس صريح لروح الحرية الجمالية التي حكمت خيارات التصميم آنذاك.
Kristine Villarroel/Business Insider
تفاصيل تتنفس الفن والحداثة
يزخر قصر فيزكايا بمكوّنات نادرة تُجسّد الذوق الرفيع لجيمس ديرينغ وشغفه بالجمع. ففي غرفة الجلوس، يبرز سجاد "الأميرال" الذي يعود إلى القرن الخامس عشر. أما غرفة الطعام، فتتزيّن بلوحات زجاجية ملوّنة صُمّمت خصوصًا للمكان، وحملت رموزًا تُجسّد هوية القصر، مثل حصان البحر والقافلة، فيما تتوسّط المائدة قطعة رخامية ضخمة تحمل نقوشًا لكائنات أسطورية عُثر عليها بالقرب من مدينة بومبي القديمة.
من الناحية التقنية، كان القصر متقدّمًا على عصره. فقد زُوّد بشبكة هاتفية داخلية ذات نظام تحويل تلقائي، تتيح للمستخدمين الاتصال مباشرة من دون وسيط بشري، وهي ميزة كانت نادرة آنذاك. كما وُضعت أنظمة صوتية خفيّة لنقل الموسيقى من البيانو المخفي في غرفة مجاورة إلى ردهة الفطور، وذلك بوساطة فتحات أرضية ذكية توزّع الصوت بانسيابية داخل المساحة.
واليوم، لا يزال قصر فيزكايا وجهة مرموقة لاحتضان المناسبات الخاصة، من الحفلات ذات الطابع اللاتيني، إلى عروض الأزياء. وقد استضاف القصر شخصيات مرموقة على مر العقود، من بينها البابا يوحنا بولس الثاني والرئيس الأمريكي رونالد ريغان اللذَين التقيا داخله في زيارة تاريخية عام 1987.
وبين تفاصيله الزخرفية المستوحاة من أوروبا وحدائقه النابضة بسحر البحر الأبيض المتوسط، يظل فيزكايا رمزًا خالدًا لتلاقي الفخامة الأمريكية بالذوق الأوروبي في قلب مدينة ميامي.